6/09/2008

برنامج حزب الكرامة

البرنامج السياسى

لسنا مجرد حزب يضاف، بل حركة تجمَع، تصون ولا تبدد، تعتز بحضارة الأمة ووحدة النسيج الوطنى، وتدرك تواصل الأجيال والمدارس فى ملاحم الكفاح والنهضة، ننطلق من عروبة مصر، ونستند إلى مطامح الأكثرية الساحقة من الشعب، ونستلهم أشواق الناس للتوحيد والمساواة والحرية والتقدم، ولا نتوه فى دروب وفروع تلهى عن الأهداف الكبرى الجامعة، ولا ندخل فى سجال عقيم يفتت تماسك المجتمعات ويذهب بريح الأوطان، ولا نقف على أطلال الماضى، بل نتطلع لاقتحام المستقبل، ونتقدم بخطى واثقة عارفة، لكسر أطواق التخلف، والخروج من سجن الهزائم، ونستمسك بنور الأمل نشق به ظلام اليأس، ونؤمن بحق مصر وأمتها العربية فى النهضة الممكنة بحيوية أجيالها الجديدة على مطالع القرن الجديد والألفية الجديدة.

لا نحلق فى فضاء من خيال، ولا تشدنا قيود الجاذبية الأرضية إلى ركام المذلة والهوان، ونؤمن بالتجديد فى غير ما تبديد، نستلهم حكمة التاريخ فى انفتاح على لغات العصر، نصون الثوابت ونتفاعل مع المتغيرات، ونسعى لنهضة عظمى نبتعث بها الأمة من رقاد، نهضة بالاستقلال الشامل وتحرير الإرادة الوطنية وفك القيود الأجنبية المفروضة عليها، نهضة بتحرير الناس وتصفية مؤسسة الفساد وانتزاع الديمقراطية للشعب كله، نهضة بالتوحيد القومى وبناء مجتمع الوحدة العربية بصياغات شعبية مبدعة واعية، نهضة بالتنمية المخططة والاقتصاد الكفء المستقل المتكامل عربيا، نهضة بكفاية الإنتاج وعدالة توزيع الثروة ونشر مظلة الضمان الاجتماعى وفاء بحقوق أوسع فئات الشعب وأعرض طبقاته، نهضة بكسر الاحتكار فى مجالات الذرة والفضاء وبقفزة علمية وتكنولوجية هائلة تجتمع لها كافة الطاقات والقدرات والإمكانيات، نهضة بتجديد الذات الحضارية وحمايتها من جمود الانغلاق ومخاطر الذوبان ووصل ما انقطع مع مواريثنا الحية والانفتاح الواثق على حقائق العصر وعلومه ومنجزاته وثوراته جميعا، نهضة بعقد اجتماعى جديد يعيد تنظيم البيت الوطنى ويجدد دساتيره ومواثيقه، نهضة بعقد قومى جديد يعيد تنظيم البيت العربى، نهضة بعقد حضارى جديد تؤكد به مصر دورها القيادى الطبيعى فى وطنها العربى وعالمها الإسلامى والثالثى المترامى الأطراف، نهضة تؤهل مصر لدور تستطيعه فى تغيير العالم وجعله أكثر إنسانية وتوازنا وعدالة بمد الجسور مع شعوب وحضارات الشرق والجنوب فى مواجهة طغيان غربى عصف واستبد.

ونؤمن أنه لا نهضة بدون التغيير، ونثق بقدرة الأمة حين تستيقظ عقولها وتنطلق طاقاتها وتتراص صفوفها، فالأمة التى حققت ما كان تقدر على صنع ما يكون، أمة المجد والعزة والكرامة تقدر عل صنع الغد الأفضل، ونحن ننتسب لأعظم ما في هذه الأمة، ننتسب لقدرتها الفائقة على التحمل والصبر والكيد للظالمين، ننتسب لعبقريتها الفياضة فى دماء شهدائها وعرق كادحيها وعقول ووجدان المؤمنين بأقدارها، ننتسب لحقائق الجغرافيا والتاريخ والمقدرة عل التفاعل الكفء مع فوران الدنيا من حولنا، ننتسب لقدرة إنسانها الحر على رفض المذلة والهوان والقهر والفساد والعجز، لقد أن لنا أن نرفع الرأس وأن نحطم القيود وأن لنا أن نستمسك بـ "العروة الوثقى" التى تشفع كرامة الناس بكرامة الوطن وكرامة الأمة.

الكرامة : وطنية جامعة

• أول قولنا: أننا نعتز بتراث الأمة، ونؤكد على وحدة الشعب بمسلميه ومسيحييه واتصال نسيجه الاجتماعى التاريخى، ونؤمن بحق المواطنة الكاملة للجميع، ونعد حركتنا امتدادا ناميا لخط التفاعل الخلاق بين الوطنية المصرية والقومية العربية والإسلام الحضارى فى انفتاح على تيارات العصر وثورات العلم والتكنولوجيا، وننحاز لأغلبية الشعب من الفقراء والقوى العاملة والمنتجة والأجيال الشابة، ونسعى لإعادة بناء مصر على قواعد الاستقلال والديمقراطية والكفاية والعدل، وتأهيلها لقيادة حركة التوحيد العربى والتضامن الإسلامى، وبناء "تحالف المستضعفين" من شعوب وحضارات الشرق والجنوب فى مواجهة طغيان الهيمنة الغربية الأمريكية.

• وأول سعينا: كتلة تاريخية تضم الأكثرية الساحقة من الشعب، نعبر عن مصالحها المشروعة فى النهضة والتقدم والعدالة، ونؤكد على هويتها الجامعة المتسقة، فلا تناقض بين الانتماء للوطن أو العروبة أو الدين، وحب المصرى لمصر لا ينفى عنه إيمانه كمسلم أو كمسيحى، والانتماء لمصر لا يجب الانتماء للامة العربية، والكل شركاء على قدم المساواة فى الحضارة العربية الإسلامية، إنها دوائر انتماء متداخلة ومتكاملة، وهى طبقات متراتبة فى جيولوجيا التكوين التاريخى للأمة، و محاولات إثارة الاقتتال أو افتعال التصادم بين جوانب الانتماء الواحد محكوم عليها بالفشل، فهى محاولات يائسة، لتمزيق ما لا يمزق، وهى محاولات آثمة لهدم حضارة التوحيد ومنجزاتها عبر التاريخ. ففى ظل حضارة التوحيد نشأت وتطورت قيم المساواة، والمساواة لا تعنى المماثلة، المساواة تعنى أن تتساوى الفرص وتتكافأ كأساس مقبول للثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.. ونحن مع أغلبية الشعب الحالمة بمجتمع الوحدة والمساواة، نحن مع أغلبية الشعب المهاجر إلى المثال المنشود، نحن مع الكثرة الكادحة المنتجة ضد القلة المسيطرة، وتلك هى الكتلة التاريخية التى نعتصم بشعابها ومصالحها وهويتها الجامعة.

• وأول إيماننا: عروبة مصر، والعروبة ليست شعارا نجتلبه أو نبتدعه، العروبة ليست اختيارا ولا اضطرارا، وعروبة مصر هى أم الحقائق فى كتاب الجغرافيا والتاريخ، ولا مجال لمنازعة عروبة مصر بالفرعونية ولا بغيرها، فعروبة مصر كامنة فى نسيجها واتجاهات حركتها قبل الفتح العربى بآلاف السنين، موضع مصر أتاح لها أول دولة فى التاريخ، وبيئتها الفيضية الغامرة جعلتها الأسبق إلى القانون والنظام والحضارة، وإمبراطورية مصر كانت الأول واستمرت قرابة الألف عام، ولم تكن مصر بالموقع فى عزلة عن محيطها الذى يعرف الآن باسم الوطن العربى، وقبل ميلاد دولة وحضارة مصر كان عصر الجليد، ومع ذوبان الجليد ذابت المنطقة كلها في هجرات وتفاعلات ثقافية مبكرة، كان الاختلاط العرقى قاعدة للتداخل والتقارب، وتوالت تجليات الاحتكاك في اللغة ومعارك البقاء، بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية فظهرت "عشرة آلاف" كلمة مشتركة فى سياق التفاعل السامى- الحامى، وكانت مصر فى عزها الأول تدق على باب عروبتها فى إلحاح وثبات، وكانت معاركها الكبرى أشبه بدوريات استطلاع وبحث متصل عن قدر عربى تأخر اكتماله لآلاف السنين، كانت أعظم معارك مصر فى الشرق، حدث ذلك مع "مجدو" تحتمس و"قادش" رمسيس، بعدها وقعت مصر فريسة لأطول مراحل استعمار فى التاريخ، وجاء الفتح العربى ليرفع عنها نير احتلال يونانى رومانى دام ألف عام، كانت مصر الصابرة تقدم قوافل الشهداء، وكانت تلتف حول عقيدة التوحيد فى الكنيسة القبطية الصامدة، كانت مصر ملجأ وملاذا للسيد المسيح وبشارة القديس مرقس كاتب الإنجيل الثانى، ومع الفتح العربى أصبحت هى -أيضا -الملجأ والملاذ لعقيدة الإسلام الخاتم، وبعد الفتح -فى القرن السابع الميلادى- حدث أعظم تطور قطعى فى حياة مصر الثقافية والروحية، ودخلت عناصر من المراحل السابقة فى شخصية مصر العربية المكتملة، أصبح الكل عربا وافدين أو أصليين مسلمين أو مسيحيين، وانعقدت الزعامة لمصر رغم أنها لم تكن دارا لخلافة، وتوالت أعظم معارك مصر دفاعا عن ديار العرب والإسلام، فى معارك "حطين" و"عكا" وبرارى الدلتا هزمت حملات الفرنجة التى تخفت زورا وراء نصرة الصليب، وهزمت حملات المغول فى "عين جالوت"، وانتفضت على عهود العجز والظلام التركى بحركة على بك الكبير لضم الشام أواسط القرن الثامن عشر، وتأكد الدور القيادى لمصر عربيا بحملات محمد على، وإبراهيم باشا لفتح السودان وضم الجزيرة والشام وشمال أفريقيا العربى، وكادت الخلافة تعود للعرب بقيادة مصر لولا أن تدخل التحالف الغربى لمنع سقوط الأستانة، كانت حركة مصر عربية بحقائق الجغرافيا والتاريخ، كانت كذلك رغم أن حكامها كانوا من غير المصريين أو من غير العرب، كانت مصر تمصرهم وتعربهم بالسنن والطبائع والطموح، ثم فرضت عليها العزلة بالاستعمار الأوربى لعقود طويلة مريرة، وحين تحررت مصر عادت إلى دورها العربى بقيادة جمال عبد الناصر.

• وأول مرجعنا: تراث وإنجازات وملامح النهضة الحديثة فى مصر، ونحن لا ننطلق من تصورات أيدلوجية بقدر ما نقرأ الحقائق كما جرت، ونستخلص الدروس وقوانين الحركة العامة، وطبيعى أن نهضة مصر أو كبوتها ظلت هى المقياس الراجح لحال العرب بعامة، والقصة ليست وليدة ظروفنا الآن، ولا هى قصر عل شواهد الماضى القريب، فقد كان طبيعيا أن تكون مصر أقدر على التجدد الذاتى، فلها مزايا فريدة في الموقع والموضع الجغرافى، ولها العمق التاريخى الثقافى الممتد عشرات القرون، وقد تزايدت كثافة دورها القيادى عل مسرح المنطقة بعد تداعى أدوار دمشق وبغداد وتعثر الأستانة، كانت مصر هى التى هزمت حملات أوربا باسم الصليب التى استمرت أكثر من مئتى عام، وكانت مصر هى التى ردت حملات المغول التى اجتاحت بغداد وأنهت حكم العباسيين، ورغم أنها تحولت إلى جزء من الخلافة العثمانية، فقد حافظت مصر على استقلالها التقليدى المستقر فى ظل أدوار الخلافة المتتابعة، ودعم دور مصر أن خلافة الأستانة راحت تترنح تحت ضربات أوربا بنهضتها البازغة، كانت أوربا الاستعمارية قد حققت نجاحاتها الأول باكتشاف الأمريكتين، ثم تمت لها السيطرة على الشرق الأقصى بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، ثم نجحت أوربا فى تقليم أظافر القوة العثمانية، ثم اتجهت أوربا بميراثها العدوانى لاحتواء القلب العربى الإسلامى، وكانت حملة نابليون على مصر طليعة الزحف، ولم تكن الحملة الفرنسية حين جاءت إلى مصر سنة 1798، لم تكن هى التى صنعت اليقظة العربية، وإنما وجدت الأزهر يموج بتيارات جديدة تتعدى جدرانه إلى الحياة فى مصر كلها، كان الشيخ حسن العطار -أستاذ رفاعة الطهطاوى- يقود حركة تجديد فى مؤسسة الأزهر التعليمية، وترافق التجديد مع بواكير نهضة سياسية واقتصادية على عهد المملوك على بك الكبير منذ أواسط القرن الثامن عشر، ورغم قسوة وفظاظة حملة نابليون (الذى قتل 300ألف مصرى، بينما لم يكن عدد سكان مصر وقتها يزيد عن 2.5 مليون نسمة)، رغم ذلك ذهبت الحملة كالزبد الذى يذهب جفاء، وقاد الأزهر حملة مقاومة شعبية أنهت الاحتلال الفرنسى فى ثلاث سنوات فقط، وتلك تجربة بليغة تثبت حيوية الشعب المصرى وقتها، بعدها بقليل بدأت تجربة النهضة الأولى مع دولة محمد على، قام الجيش العصرى الحديث، وزيدت رقعة الأرض الزراعية، ونشأت حركة تصنيع ضخمة بمعايير زمانها، وسرعان ما تردد رجع الصدى في أقطار عربية أخرى، وتوالت محاولات "بشير الثانى" فى لبنان، و"داود باشا" في العراق، و"الباى أحمد" فى تونس، وسعت تلك التجارب كلها إلى استقلال العرب عن الدائرة العثمانية الممعنة فى التخلف، وسعت حملات محمد على إلى إمبراطورية عربية متحدة، ثم جرى العصف بالتجربة كلها مع توقيع معاهدة لندن 1840، وتحولت مصر إلى عزب وتكايا واقطاعيات تحت سيطرة غربية تطورت إلى احتلال بريطانى مباشر عام 1882، وانسحبت فكرة النهضة من معمل الواقع إلى مقاعد الدرس بعد هزيمة ثورة عرابى، كان التفكير فى النهضة يجرى دائما تحت حد السيف الغربى، فقد تعرضت ثقافتنا الذاتية لتجربة صدام طويل دام مع الغرب، وتعرضت ثقافتنا لفقدان التوازن في تجارب تحديثها بين جوانبها المادية والمعنوية، وكانت النتيجة: شيوع الازدواج بين الموروث والوافد، ثم كانت محاولات التجاوز أو "التوفيق الفعال" بين ثقافة الذات وحقائق العصر، والتوفيق الذى نقصده ليس وسطا حسابيا، التوفيق المقصود هو موقف نوعى أرقى يتجاوز نقائص نقيضين هما "الانغلاق على الموروث"، و"الانغماس في الوافد"، وقد اكتسب التوفيق المقصود "فعاليته" من وثوق ارتباطه بتجارب ومحاولات النهضة في التطبيق والفكر والسياسة، واستمر خط التوفيق الفعال متصلا من تجربة محمد على - وإن شابها تقليد النموذج الغربى- إلى ثورة جمال عبد الناصر، فقد دعا رفاعة الطهطاوى إلى مفهوم الدولة الدستورية مع نبذ الاحتكار الاقتصادى الممنوع شرعا، ثم جاء الدور الأبرز لمدرسة جمال الدين الأفغانى المرتبطة بثورة عرابى، والمؤثرة بامتياز فى تقاليد الحزب الوطنى بزعامة مصطفى كامل ومحمد فريد التى أكدت على مفهوم السلطة "المدنية"، وفرقت بوضوح بين شعارى "الجامعة الإسلامية" و"الخصوصية القومية للعرب"، وفى النصف الأول من القرن العشرين اتسعت قاعدة الازدواج بين الوافد والموروث. في المجتمع والنخب، وظل تيار "التوفيق الفعال" حاضرا بقوة في تجربة الحزب الوطنى وطلائعه المسلحة التى فجرت ثورة 1919، وربط الحزب بين الانتماء الوطنى والقومى والدائرة الإسلامية مع اهتمام متزايد بالعدل الاجتماعى، وجاءت حركات الأجيال الجديدة وفى قلبها امتدادات متطورة لخط "التوفيق الفعال" فى بيئة الحرب العالمية الثانية، وما أعقبها من تنامى حضور القضية الاجتماعية والقضية القومية، وجاء جمال عبد الناصر تجسيدا حيا ومبدعا لصيغة "التوفيق الفعال"، ومن موارد التوفيق الفعال تشكلت ملامح النهضة الناصرية: طليعة عسكرية متفاعلة مع التيارات الشعبية خاصة أجيالها الجديدة، عداء حازم للاستعمار، جهاز دولة قوى يشكل عمادا للتنمية المستقلة، سلطة مدنية تستند إلى مصالح الشعب وطموحاته، استقلال سياسى تام، استقلال اقتصادى باشتراكية الكفاية والعدل استند إلى قاعدة اجتماعية من أصحاب المصلحة من التغيير (تحالف قوى الشعب العامل) والتى كان من ثمارها التوسع فى التعليم والبحث العلمى والصحة، وحدة عربية جامعة، ثم تضامن فعال فى الدائرة الإسلامية والأفريقية وحركة التحرر الوطنى على الساحة العالمية والتى عبرت عنها دول الحياد الإيجابى وعدم الانحياز.. ولا نريد أن نعدد إنجازات الناصرية فى التطبيق، فهى أهم وأغنى تجارب النهضة فى تاريخنا الحديث والمعاصر، وانتصاراتها مع اخفاقاتها ملء السمع والبصر، ونحن نبدأ منها بالتاريخ ولا ننتهى إليها بالطبيعة، وندرك نواقصها الجوهرية التى حالت دون استمرارها، وأدت إلى الانقلاب عليها، ندرك نواقصها: فى ظل غياب التنظيم الشعبى الكفء، وفرط الاعتماد على جهاز الدولة بمثالبه، وتضخم دور أجهزة الأمن. وبتضافر هذه العوامل الداخلية مع تربص الاستعمار والصهيونية والرجعية بالمؤامرة والعدوان عل المشروع الناصرى، كانت النتيجة: إنهاك الثورة بنكستين متتاليتين، في سبتمبر 1961، وفى يونيو 1967..

صحيح: أن إجراءات الاستثناء من طبيعة الثورات، وصحيح: أن ثورة عبد الناصر هى الأقل في أرصدة التجاوز لو قورنت بأى ثورة سبقتها أو لحقتها في التاريخ الإنسانى بإطلاق، وصحيح: أن عبد الناصر تحمل مسئولية الهزيمة وإعادة بناء القوات المسلحة من نقطة ما تحت الصفر، كل ذلك صحيح، وصحيح أيضا: أن الجيش الذى بناه عبد الناصر هو الذى عبر الهزيمة فى ملحمة أكتوبر العظيم، كل ذلك جرى، لكن الثورة لم تستطع البقاء فى السلطة بعد غياب عبد الناصر، فالثورة كانت للناس أكثر مما كانت بالناس، وهذه هى "ثغرة الضعف" التى صدعت البنيان الشاهق.

• وأول بدئنا: أننا لا نقدم بديلا بالأيدلوجيا، ونسعى إلى بلورة الوطنية الجامعة، وقد آن لنا أن نسد الفرج ونردم الصدوع ونجرى مصالحات تاريخية يريدها الشعب وتزيد من تماسك وفاعلية طلائعه القادرة، وعلينا -أولا- أن نقص دابر التلاعب بمواريثنا الحضارية والروحية، ولعل أخطرها ذلك السجال الخبيث الهدام بين ما يسمى بالعلمانية في مقابل ما يسمى بالدولة الدينية، فالعلمانية التى تفصل الدين عن الدولة -وعن الحياة- لا موقع لها من الإعراب في سياقنا الحضارى، ومفهوم الدولة الدينية -بالمقابل- افتئات عل إسلام الدين والدنيا، وانتهاك للشريعة وجهل بالتاريخ، العلمانية فكرة وتاريخًا جزء لا يتجزأ من السياق الغربى، فقد تجاورت هناك سلطتان إحداهما دينية والأخرى زمنية، طغت سلطة الكنيسة فى العصور الوسطى فكانت الدولة الدينية، وطغت سلطة الزمن فى عصر النهضة فكانت الدولة العلمانية، إنها معركة حدثت هناك، وما من معنى لنقلها هنا، إلا إذا كان المجترون للعلمانية، يريدون خلعنا من تاريخنا وحاضرنا ووضعنا فى الغرب الحديث والمعاصر، أو كان المعارضون لها باسم الدين يريدون خلعنا من تاريخنا وحاضرنا ووضعنا فى أوربا العصور الوسطى، فليس فى الإسلام رجال دين ذوى سلطة بل علماء ومتفقهون، ولا وساطة بين العبد والرب، وليس فى الإسلام سلطة دينية، سلطة الإسلام مدنية خالصة تحكم بالعقل ومرجعيته الشرع، والموقف الصحيح هو التمييز -لا الفصل-بين معنى الدين ومعنى الدولة، ولا معنى للدولة الدينية أو العلمانية فى مجتمع يدين غالبه بالإسلام ويعتبره الكل ثقافتهم وحضارتهم المشتركة، وشرائع الأديان مع العلم والتقدم والعقلانية والمساواة والديمقراطية، والعقل هو وكيل الله عند الإنسان، وقد وازنت حضارتنا بين الدنيا، والآخرة، وجعلت صلاح الدنيا وعمارتها شرطا لصلاح الدين والدنيا، ووازنت حضارتنا بين العقل والنقل مع إعطاء الأولوية للعقل، ووازنت حضارتنا بين الدينية والدنيوية التى اختص بها العقل الإنسانى يبدع فيها خلقا وتطويرا متسقا مع المصلحة والشرع، وشمول الدين، لا يلغى العقل البشرى واجتهاداته الحرة الطليقة من كل قيد، وأغلب شمول الدين توجيهى عام تختلف صياغاته البشرية باختلاف الزمان والمكان والمصالح والاختيارات، ولا يجب أن يختلط معنى الشريعة مع معنى الفقه، فالشريعة وضع إلهى، والفقه مدارس واجتهادات عقلية غير ملزمة دينيا، وقد توقف التطور الفقهى منذ أغلق باب الاجتهاد قبل عشرة قرون وتزيد، ولا يجب أن تتحول نداءات تطبيق الشريعة إلى مزايدات ومناقصات فى أسواق السياسة، فأغلب النخب وأغلب الجمهور مع التطبيق الصحيح وتنقية القوانين القائمة مما يخالف قواعد الشريعة، وحدود الشريعة لا تؤتى ثمارها المرجوة لو طبقت في عزلة عن التغيير السياسى والاقتصادى والاجتماعى الشامل، إنها بذلك تفقد شروط تطبيقها من الأصل، ولا يجوز أن تتخذ الشريعة وسيلة أو تكئة لمصادرة حقوق المواطنة الكاملة لغير المسلمين، ولا معنى ولا مكان لفرض جزية أو عقد ذمة كانت لها ظروف زالت من زمن، فلكل حكم علة دار معها حيث توجد وحيث تنتفى ينتفى، وإمبراطوريات الأديان كانت لها ظروفها فى العصور الوسطى، ويختلف الأمر مع الدول الحديثة التى ينتمى لها الكل ويدافعون عنها بالمبدأ القومى الجامع، والأصل في الشرع: لهم مالنا وعليهم ما علينا، والمساواة هى دستور حياتنا التى نصنعها جميعا وندافع عنها بالجهد والتضحيات، وأى تمييز بين مواطن وآخر باختلاف الدين مرفوض شرعا ووضعا، فنحن شعب واحد ومن مزيج واحد ومن قومية واحدة جامعة للعرب بإطلاق، ومواقف الكنيسة الوطنية الباهرة عنوان ساطع على أصالة الانتماء العربى للكل، نقول ذلك حتى لا تكون وحدة شعبنا الوطنية والقومية والحضارية محلا لجدال أو نزال، فالأجدى أن تنصرف جهودنا جميعا لإنهاض الوطن والأمة، ونقطة البدء: تحالف وطنى جامع، نقطة البدء: إعادة صياغة العلاقة بين مدارس الفكر والعمل السياسى في حياتنا، والنداء مفتوح للكل، وللأجيال الوسيطة والشابة بالذات، مفتوح لنا ولغيرنا فى المدرسة القومية، ومفتوح لأبناء المدرسة الليبرالية، ومفتوح لأبناء المدرسة الإسلامية، ومفتوح لأبناء المدرسة اليسارية، وقد أعطت كل مدرسة لأمتها قدر ما استطاعت فى الظروف التاريخية التى نشطت وتطورت فيها، وكان لكل منها سلبياته ونقائصه التى صنعتها نفس الظروف، وقد آن الأوان لإعادة صياغة العلاقة بين المدارس الأربعة في ضوء الخبرة والتاريخ، وهى مهمة ملحة فى ظل واقع الهزيمة الذى يريد أعداء الأمة أن يفرضوه عليها، ولا تستطيع مدرسة بمفردها أن تحمل عبء التحديات الجسام التى تواجهها الأمة.

والعلاقة الجديدة تنطلق من أن الحقيقة الكاملة لا يحتكرها أحد، وترتكز على اعتراف الكل بالكل، وتستوجب نقدا ذاتيا أمينا شجاعا يمارسه كل طرف ويعلنه على الملأ، وتلك ليست محض ضرورة أخلاقية أو نزعة ديمقراطية أصيلة، إنها أيضا ضرورة للانفتاح على المستقبل والوفاء بشروطه، وضرورة لاكتساب وتعميق المصداقية لدى الجماهير، وهنا لا نعنى على أى نحو إلغاء الحدود بين القوى والمدارس، ولا التنكر لحقوقها البديهية فى التعدد المؤسسى، ولا نعنى وضع الرؤوس فى الرمال أو التعامى عن خلافات طبيعية وموضوعية، فليس ذلك مما نقصده، المقصود: إدراك المشترك وفتح البصر والبصيرة على مساحات الاتفاق الممكنة فى بناء المستقبل عبر تخليص الوطن من التغريب والصهيونية والفقر والفساد والاستبداد. المقصود: صياغة مفهوم الـ "نحن" ليتجاور ويتحاور مع مفهوم الأنا والآخر، ومن تفاعلهما تجنى الأمة أفضل ما يستطيع الكل أن يقدموه لها فى أزمتها الراهنة، والمصالحة التاريخية المطلوبة بين المدارس الأربعة -وغيرها- شرط تأسيس لحركة وطنية شعبية فاعلة، المصالحة المطلوبة شرط جوهرى لتنظيم الجماهير الحرة ونيل حقوقها الطبيعية والدستورية. والحركة الشعبية المطلوبة ليست محض ائتلاف بين مدارس الفكر والسياسة، ولا مجرد حاصل جمع لأحزاب عاجزة ومقيدة.. فرقم التغيير الصعب لا ينتج إلا من حاصل جمع أرقام الآحاد مضروبا في رقم الملايين من الجماهير. وهذا هو الدرس الواجب تعلمه من التاريخ في وقائعه المتعددة على مر مراحل عديدة في التاريخ المصرى، بدءا من الحركة الشعبية في مقاومة الغزو الفرنسى والإنجليزى، وفى ثورة 1919، وحركة الطلبة والعمال قبل ثورة يوليو 1952، والكفاح المسلح فى القنال، وغضبة 9، 10يونيو 1967رفضا للهزيمة، وانتفاضة 18و 19يناير 1977، لقد كانت جميعها تعبيرا عن تحرك جماهيرى واسع ذابت فيه الطلائع وسط الجماهير.

الكرامة : مشروع النهضة

ولا نهضة لمصر بدون دورها القيادى فى التوحيد العربى، كانت تلك حقيقة التاريخ وأعظم دروسه، وتلك أيضا هى أقدار الجغرافيا والثقافة الجامعة، ولو لم توجد القومية العربية، فرضا، لخلقتها الوطنية المصرية خلقا.

نهضة مصر -إذن- هى النهضة العربية بإجمال، ولا نستطيع أن نتحدث عن نهضة دون توفر شروطها، فالنهضة مقابل التخلف وبقاء الحال على ما هو عليه، وقمة التخلف هى هدر الإمكانية، قمة التخلف هى اتساع المسافة بين الممكنات والحادثات، قمة التخلف: تنمية مشوهة تخدم الخارج ولا تعم آثارها المجتمع ككل وتؤكد التبعية، وهو ما يحدث لنا -مع أمم من غيرنا- فى عالم يمور بسباق الأمم على مدارج التقدم والنهضة. ولا نريد أن نعلق عجزنا عل أقرب شماعة، فالعالم يتغير بالفعل، والدنيا هائجة مائجة لم تستقر بعد على مشهد ختام. العالم يتحول إلى قرية صغيرة بالتطور الطفرى في وسائل الاتصال وتدفق المال والاستثمارات وتحرير تجارة السلع والخدمات، وقبضة الكبار تكاد تخنق البشرية، الدول الصناعية السبع الكبرى تملك 74% من الناتج العالمى كله، واقتصاد العالم تسيطر عليه الشركات متعدية الجنسيات، و20% من سكان العالم يملكون 85% من ثروة الكون، والـ20% الأشد فقرا لا يملكون سوى 1.5%، وديون العالم الثالث تزيد عن 0 140 مليار دولار، ووصفات "التكيف الهيكلى" -لصاحبيها صندوق النقد والبنك الدوليين- أقرب طرق الإفقار السريع، مليار نسمة فى العالم تحت خط الفقر المطلق، ونصف البشرية كلنها تحت خط الفقر النسبى، ومع التطور الهائل فى ثورات العلم والتكنولوجيا والمعلوماتية والاتصالات (تنفق أمريكا سنويا 0 30 مليار دولار على التطوير التكنولوجى والبحث العلمى) ومع التطور أصبح حجم الوحدات الصناعية يميل للصغر مع توحش حجم الاحتكارات المسيطرة، وتسيطر أمريكا وحدها على 65% من المادة الإعلامية فى العالم، وهذه هى أحد الأدوات الرئيسية فى "عولمة" الدنيا أو "أمركتها" فى الحقيقة، والأدوات الأخرى موجودة ويضاف إليها، فأمريكا تسيطر على حلف الأطلنطى الذى يتوسع شرقا ويزحف جنوبا، وتسيطر على مجلس الأمن الدولى بعد انهيار المعسكر السوفيتى، ولها النصيب الأوفر فى صنع قرارات صندوق النقد والبنك الدوليين، وأضيفت لها -من أول يناير 1995- منظمة التجارة العالمية" بسلطاتها الواسعة فى الضبط والقضاء وتنفيذ اتفاقات الجات لتحرير تجارة السلع والخدمات والأموال، وهكذا توفرت لأمريكا قوة قهر غير مسبوقة فى فرض ديكتاتورية السلاح والثقافة والسوق، ديكتاتورية مركبة بسطوة الإعلام وتفوق الاحتكارات والتكنولوجيا واستئثار بغالب القوة العسكرية والنووية، وفى المقابل: دنيا واسعة تتقارب بينها المسافات، وتحتدم فيها التناقضات وأمم تبحث لنفسها عن مواطئ قدم فى الزحام، نعم، توفرت لأمريكا والغرب -عموما- كل هذه السلطات الكونية، ولكن لم يمنع ذلك من نهضة الآخرين متى توفرت شروطها، والصين أحدث مثال، فهى تحقق أعلى معدل نمو اقتصادى فى العالم كله وصل لأكثر من 13% فى عشرين سنة متصلة، وتقدم صياغة مختلفة، الدولة أكبر شريك اقتصادى بالقطاع العام فى السوق، وفى الصين تأكد دور الثقافات الذاتية فى بناء الاقتصاد، فالجماعية موجودة مع المبادرة، والاعتماد على الذات موجود مع انفتاح مقصود ومخطط له، ونمور شرق أسيا مثل أخر مشهور، وأزماتها المالية لم تجذبها للخلف، فقد جاوزت حد النهضة الصناعية والتكنولوجية بطريقة لا رجعة فيها، والمشترك الأعظم فى هذه التجارب وغيرها دور الدولة فى النهضة، وهو ما نجده أيضا فى الهند وباكستان، الهند متوسطة القدرة الاقتصادية كسرت احتكار التكنولوجيا الذرية والصاروخية والإلكترونية والفضائية، وباكستان الأفقر كسرت احتكار التكنولوجيا الذرية والصاروخية، وإيران فى الطريق، والتطور قد يبدأ فى مجالات السلاح وسرعان ما يتمدد بالطبيعة -والعدوى- إلى كل المجالات، وهذه فقط مجرد أمثلة، المقصود: أن لا أحد ينهض بإذن، ولا أحد ينهض بخضوع لفروض القوة السائدة، ولا أحد ينهض حسب كراسة الشروط والمواصفات، فلكل أمة طريقها، الخاص للنهضة مهما تواصلت المشتركات، ولكل أمة طريقها فى القفز على سطح الدنيا بدلا من الفرق فى قيعانها وأقبيتها المظلمة. ومع عواصف سبتمبر 2001 فوق نيويورك وواشنطن؛ تأكد المغزى الرمزى لقصف البنتاجون، ومركز التجارة العالمى، وبصرف النظر عن الفاعلين، فإن ما جرى -بعد عواصف سبتمبر- وثيق الصلات بحركة تطور العالم فى الثلاثين سنة الأخيرة بالذات، ذات الثلاثين سنة التى انقطعت فيها صلات امتنا بنداءات النهضة، ذات الثلاثين سنة التى جرى فيها الانقلاب على مشروع النهضة القومى العربى بقيادته الناصرية، ودخلت فيها امتنا إلى النفق الطويل المظلم، وإن لم تخل الصورة من مشاهد مقاومة موحية؛ بينما كانت صورة العالم مختلفة فى النوع، فقد تغير العالم فى هذه الثلاثين سنة كما لم يحدث فى خمسة قرون بدأت بسقوط غرناطة واكتشاف الأمريكيتين سنة 1492، كان العالم خلالها هو الغرب؛ كان الغرب منبع الإلهام فى نظريات السياسة والاقتصاد والثقافة، والمحل المختار للنهضة الطفرية المادية العلمية والتكنولوجية، فيما ظلّ العالم الأوسع محلاً للانقطاع عن النهوض، وللركود وسهولة العصف بقومياته وثقافاته ونهب ثرواته، وبعد الحرب العالمية الثانية؛ بدا ان العالم الأوسع يتمرد على السيطرة الغربية الفاشية، ودار الصراع سجالاً بين حركات تحرر وطنى، واستعمار غادر صورته المباشرة إلى صور للسيطرة الملتفّة عن بعد وعن قرب، وكانت حركة القومية العربية فى قلب العاصفة، وكانت النهضة فى مصر بالذات مما يجاوز حدود صبر القوة الأمريكية التى انعقدت لها سلطة القيادة فى السياق الغربى، وتواطأت نواقص الداخل مع شهوة الانتقام الأمريكى بقواعده الرجعية (العربية)، وثكنته العسكرية المتقدّمة (إسرائيل)، لكن انكسار مشروع النهضة العربية لم يعن انكسارًا -مماثلاً- على جبهات أخرى فى العالم الأوسع، ذات العالم الذى لعبنا الدور الأبرز فى صياغة تطلّعاته، فقد نهض الشرق الأسيوى بالذات، واستقرت للمرة الأولى -فى تاريخ الخمسة قرون- خريطة نهوض تضارع الغرب وتكسر احتكاره المادى والتكنولوجى، والمغزى: تغيير حقيقى فى خرائط القوة، وتهديد حقيقى متصل لوحدانية القطب الأمريكى الذى تزايدت شراسته بعد انهيارات موسكو، وإعادة إلحاقها بسياقها الغربى السائد، وإيذانا بتحولات غير مسبوقة فى مداها وطبيعتها؛ فقد كان الاقتصاد الأمريكى يمثل نصف اقتصاد العالم عقب الحرب العالمية الثانية، وتراجعت مكانته الآن إلى حدود 28% من اقتصاد العالم، وكانت أمريكا وحدها تحتكر السلاح النووى، بينما التكنولوجيا النووية الآن تتسع خرائط انتشارها جنوبًا وشرقًا، والمعنى: ان "القوة الصلبة" التى تستند إليها أمريكا تتراجع باطراد فى أوزانها النسبية، بينما "القوة الناعمة" -بإغراء الامركة- قد صارت فى خبر كان مع المغزى الرمزى لعواصف سبتمبر، من هنا كان الاندفاع الأمريكى لجوءًا لحد السلاح لمصادرة تحولات التاريخ، والعودة للاستعمار المسلح و"عسكرة العولمة"، والغزو المباشر للحلقة الأضعف والأكثر ثراء بمنابع البترول حول "بحر قزوين" وعند الخليج العربى، بدت المنطقة كأنها "مرمى النيران" المفضّل فى حرب أمريكا الأخيرة؛ جموح فى العصف، وغلظة فى فرض الوصاية المسلحة على منطقة هى قلب العالم بامتياز، وفرض لـ "مشروع الشرق الأوسط الكبير" لوأد العودة -بالتطلع الشعبى- لمشروع النهضة القومى العربى بامتداده الإسلامى إلى الشرق الأسيوى الناهض.

ونحسب أن الأمة العربية تريد النهضة وتستطيعها، المهم أن يتغير حالها وتضع لنفسها علامات الطريق، وأول الطريق: أن لا نبقى على ما نحن عليه، فالعرب -فى الغالب الأعم- سقطوا أسرى لوصفات التخلف النافية لدور الدولة الإيجابى، ودور المواطن الإيجابى، والدولة هنا عنوان للإرادة المستقلة، وفى غياب الرغبة في الاستقلال توالت الكوارث، والمواطن تعرض لسلب حريته وحقوقه على كافة المستويات، ومن هنا جاء الإحساس بتداعى الولاء والاهتمام بالمشاركة في تغيير أحوال الأمة، فالعرب فى أغنى مناطق العالم بمواردها الطبيعية ومزاياها الجغرافية ومواريثها الثقافية، وفرصة التكامل قائمة بين أقطار البشر والماء وأقطار البترول والمال، ومع ذلك ظل الحال يتدهور إلى الأسوأ، فجوة الغذاء تتسع، والعرب يدفعون 20مليار دولار سنويا فاتورة لاستيراد القمح وحده، و120 مليون عربى تحت خط الفقر، والأمية الأبجدية متفشية ومتوسط النمو في دخول الأفراد في انخفاض متصل، في الستينيات كان المعدل 6% وفى التسعينيات تدهور عموما إلى 2.5%، وتفاوت الثروات مرعب، وديون العرب وصلت إلى 220مليار دولار، وفوائض العرب التائهة فى الغرب أكثر من ألف مليار دولار، ومعدل النمو الاقتصادى في المتوسط أقل من 3% سنويا، والاستثمارات المشتركة متدنية، ونسبة التجارة البينية أقل من 10%، والإنفاق على البحث والتطوير لا يزيد عن 600 مليون دولار سنويا (أقل من 0.14% من الناتج القومى الإجمالى )، و70% من العرب تحت خط الفقر المائى، وفجوة الأمن تتسع رغم إنفاق مهول على شراء السلاح، والمشهد فى عمومه يثير الأسى بإختلالاته وتناقضاته، وكأن نهضة الدنيا قد تقطعت بها السبل والأنفاس عند حدود الوطن العربى، وكأننا أمة "الربع الخالى"؛ فالقرار الاقتصادى لا نصنعه، والقرار السياسى والأمنى محجوز للغير، والعصف الأمريكى يختص العرب فى غالب الأمور، وطاقة الأمة على التوحيد والنهوض تضيع فى سراديب الاستبداد والتخلف والنتيجة: أن تفرق العرب وظلت الأرض محتلة، والحقوق مهدورة، والإرادة ضائعة، والرعب النووى حكر (لإسرائيل) وحدها فى المنطقة، وعندها صواريخ بعيدة المدى قادرة على الوصول لأبعد مدينة عربية، ودعاويها وخططها الشرق أوسطية تستلب الوجود العربى من ذاته بعدما أصبحت ظواهر الانعزال القطرى تنمو عل حساب الوحدة إلى جانب مخاطر اهتزاز الوحدة الوطنية فى عدد من الأقطار العربية. وليس أسوأ مما نحن فيه إلا ما سنكون عليه لو ظلت الحال نفسها، وهو ما يجب أن يحفزنا لتحدى الهزيمة.

ومشروع نهضتنا المقبلة لا يبدأ من فراغ، ولا يدور فى الفراغ، فهو ثمرة التسليم بوجودنا القومى وهويتنا الحضارية وأشواقنا فى اللحاق بالعصر، وهو خلاصة تجارب النهضة السابقة بمكاسبها وعثراتها، ولا يعصب عينيه فلا يرى متغيرات الدنيا الفوارة من حولنا، ولا يصد نفسه بالعقد عن تجارب الآخرين، ولا يقع بالإغراء والغواية فى مصائد الآخرين، ويقوم -فيما نتصور- على سبعة قواعد رئيسية حاكمة ومتداخلة ومترابطة: فلا نهضة لنا -أولا- بدون اطراد السعى إلى "الاستقلال الشامل"، وامتلاك أسلحة الردع لتحقيق توازن القوى فى المنطقة، والاستقلال غير الانعزال، فالعزلة لم تعد ممكنة، ولا هى هدف مرغوب، كان الاستقلال مطلوبا للتحرر من سيطرة فرضت قرونا بقهر السلاح ، وكان مطلوبا للتحرر من سيطرة على الموارد والثروات والقرارات، وكان الاستقلال مطلوبا للتحرر من عدوان على الهوية الذاتية قوميا وحضاريا، كان الاستقلال مطلوبا بجوانبه السياسية والاقتصادية والحضارية، وهو اليوم أكثر إلحاحا بتطور الظروف، عدم التكافؤ فى قوة السلاح يديم سيطرة عسكرية حاضرة بغلظة في بلادنا، وعدم التكافؤ فى قوة الإعلام يسحق الذوات الثقافية عل نحو غير مسبوق في ضراوته وجبروته، وعدم التكافؤ في قوة الإنتاج والتطوير مع تداعى معانى الشرعية الدولية -يجعل ثرواتنا وأحلامنا في التقدم عجينة طيعة فى يد الكبار المسيطرين، والاستقلال الشامل رد على هذا كله، إنه يعنى -أولا- تحرير الأوطان من غصب الغير، ويعنى -ثانيا- تحرير الاقتصاد من سطوة الغير، ويعنى -ثالثا- تحرير الثقافة من الاستلاب والذوبان والانغلاق فى الوقت نفسه، والاستقلال يعنى التعامل الندى مع عالم اليوم عبر الاكتساب الواعى لعناصر القوة ومزاياها، ونحن أقوياء بالأسباب ضعفاء بالنتائج، نملك كل مصادر القوة وتضيع منا فى آن، ننفق أكثر من غيرنا على شراء السلاح ونطلب حماية الغير، وتلك نتيجة منطقية للأسف، فالذى يشترى السلاح ليس كالذى ينتجه، ويملك العرب فرصة تصنيع السلاح لو تكاملت مواردهم المالية وخبراتهم البشرية الوافرة، والفرق: قرار باستقلال السلاح، ويملك العرب فرصة الاحتشاد على هدف يجمعهم ويعزز استقلالهم، فاحتلال العراق ووجود الكيان الصهيونى خطر يهدد الجميع، والسعى لتحرير فلسطين هدف لا يتم بدون جهد جماعى عربى متصل لعقود طويلة مقبلة، تحرير فلسطين يحرر الأمة من قيودها ويطلق طاقاتها الحبيسة إلى أبعد الآماد، وذلك فى ضوء التأكيد على حقيقة أن الصراع العربى/ الصهيونى هو صراع وجود لا حدود، ولن تحسمه إلا القوة بمعناها الشامل: حضاريا واقتصاديا وعسكريا، وأن تحقيق الانتصار فيه ليس رهنا بجيل أو مرحلة أو معركة، ولا يحق لأى جيل أن يتنازل عن الحقوق التاريخية الثابتة للأجيال العربية السابقة والحالية واللاحقة فى فلسطين. ولذلك فإن كافة الاتفاقات والمعاهدات التى وقعتها الأطراف العربية مع (إسرائيل)، غير ملزمة إلا لمن قام بتوقيعها، ومن حق الجيل العربى الحالى والأجيال اللاحقة له أن ترفضها ولا تعترف بها.

ولا نهضة لنا -ثانيا- بدون الوحدة العربية، فلم تعد الأمة العربية فى حاجة لأن تثبت حقيقة الوحدة بين شعوبها، ووحدة الأمة ليست مجرد استعادة لأوضاع كانت عليها، ولا هى مجرد رفض مشروع لتجزئة فرضت علينا فرضا مع عهود الغزو الاستعمارى، إنها حركة تغيير ونهوض سياسى واجتماعى وحضارى شامل، وهى ثورة تبلغ هدفها بخلق قوة شعبية موحدة فى الوطن العربى، والوحدة القومية ليست مودة، فات أوانها، فبواعثها راسخة بحقائق الجغرافيا والتاريخ؛ ثم أننا نعيش فى عصر يقظة متصلة للقوميات، قبل الأيدلوجيات وفوق ركامها، الدليل : ما حدث من تفكك الاتحاد السوفيتى أخر إمبراطوريات الأيديولوجيا، وما حدث فى ألمانيا التى توحدت، وما يحدث فى الصين التى تسترد وحدتها القومية كاملة، وما يحدث فى الدنيا كلها من صحوة للقوميات والثقافات القومية، إن الوحدة العربية هدف يستوجب إقامة دولة عربية على كامل تراب الوطن العربى كما هو محدد جغرافيا وتاريخيا، ومع إدراكنا بوجود تفاوتات مجتمعية بين البلدان العربية وفى كل منها، ووعينا بضرورة تكامل هذه التفاوتات في إقامة الدولة المنشودة، نرى هذه الدولة مجسدة للتعدد والتنوع العربيين، دولة تكون السيادة فيها للشعب العربى، وتكون السلطة فيها لمن يختاره الشعب العربى، وتكون علاقات الناس فيها متفقة مع اشتراكهم فى ملكية الأرض التى هى وطنهم، وتكون علاقتها بالدول الأخرى محكومة دائما بما يحقق مصلحة الشعب العربى

ونحن نطلب هدف وحدتنا القومية ونسعى إليه بأساليب تتكافأ شرفا مع الغايات، ومن ثوابتنا على الطريق: التأكيد على دور مصر وقدرها كدولة نواة الوحدة المقبلة (70مليون عربى في مصر من إجمالى 280مليونا عند خط بداية القرن 21)، أيضا: التأكيد على تدرج الأشكال والصياغات الدستورية للوحدة، والتأكيد على بعث الحركة القومية والاتحاد الطوعى للمنظمات الشعبية الساعية للوحدة، وخلق مجتمع الوحدة العربية من أسفل وبنائه قاعديا بدمج أنشطة وقطاعات اقتصادية واجتماعية نوعية وأهلية وإطارات للتعبير القومى الموحد، ونحن لا نتغافل عن حقيقة وجود الدولة أو الدول القطرية، لكن الدولة القطرية -صغيرة أو كبيرة- أصبحت عبئا على نفسها، ولم تعد قادرة على مواصلة الشوط ولا تجديد مصادر شرعيتها المصنوعة، في عالم يتجه إلى صناعة التكتلات والتجمعات الاقتصادية ولا يعترف إلا بالكيانات الكبرى، والوحدة العربية تجمع طبيعى كبير لا مستقبل لنا بدونه، وكل خطوة فى اتجاهه تزيد من مقدرتنا على تقليص ظواهر عدم التكافؤ فى علاقاتنا بالكبار.

ولا نهضة لنا -ثالثا- بدون الكفاية والعدل، توسيع قاعدة الثروة ثم نصيب عادل من الثروة لكل بحسب عمله وجهده، الكفاية فى الإنتاج هى شرط النمو الاقتصادى، والعدالة فى التوزيع تحول النمو إلى تنمية تستنهض طاقات المجتمع بأكمله، والتنمية التى تحقق الكفاية والعدالة تستحق وصف التنمية المستقلة، فاستقلال التنمية ليس فى مجرد إعلان التمرد على قواعد عدم التكافؤ فى نظام دولى يصوغه الكبار ضمانا لمصالحهم وتعظيما لاحتكاراتهم وأرباحهم المنهوبة، استقلال التنمية يعنى التحرر من السيطرة الاقتصادية والاجتماعية، استقلال التنمية يعنى السيطرة الوطنية على القرارات وحرية اختيار الأهداف وحرية استخدام الوسائل، وقد زادت ظواهر عدم التكافؤ فى النظام الدولى مع قيود اتفاقات الجات ووجود منظمة التجارة العالمية المضافة لشروط ووصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، والهدف: تحطيم ما تبقى من حصانة الأسواق القومية، وتحويل الدولة إلى حارس مطيع لاحتكارات الكبار، وهو ما يعنى أن دور الدولة القيادى -بالمقابل- فى تحقيق التنمية المستقلة أصبح مطلوبا أكثر، وتتأكد قدرة الدولة على التدخل الفعال بقدر كفاءتها وتمثيلها الحر لأغلبية الشعب، دور الدولة مطلوب فى قيادة الاقتصاد بكافة قطاعاته العامة والخاصة والتعاونية، ووسائلها: التخطيط العلمى، والمزج بين آليات التخطيط وآليات السوق، وتوجيه الاستثمارات والحوافز والروافع الاقتصادية لبناء قاعدة علمية تكنولوجية متقدمة وتقود إلى وضع تنافسى أعلى للدولة، ولا قيد على تطور أشكال الملكية جميعها مادامت تحقق وظائفها الإنتاجية والاجتماعية بكفاءة، والملكية فى عقيدتنا الحضارية وظيفة اجتماعية، الملاك مستخلفون لا أصلاء، وليس لهم حق التصرف المطلق، والملكية الخاصة مشروعة دون احتكار ولا تقديس، والاستثمارات الأجنبية مرغوبة فى حدود الأهداف والخطط الوطنية، ولا يمكن لتنمية أن تدوم وتطرد بدون تنمية البشر والتشغيل الكامل للطاقات وخلق الكوادر القادرة وإعلاء مبدأ تكافؤ الفرص في حقوق العمل والعلم والصحة والسكن والضمان الاجتماعى، وتوسيع قاعدة الإنتاج واستنفار الطاقات الأهلية وعدالة توزيع الثروة وتذويب الفوارق بين الطبقات والقضاء على ظاهرة البطالة وتعظيم عوائد العمل في مقابل وظائف الملكية، وطبيعى أن اطراد التنمية يتطلب نوعا من الاعتماد الجماعى العربى على الذات لإشباع الاحتياجات الأساسية.

ولا نهضة لنا -رابعا- بدون العلم والتكنولوجيا، فقد اتسعت هوة التخلف التكنولوجى في بلادنا، والتطوير في التكنولوجيا والبحث العلمى لم يعد مجرد عنصر مساعد فى دفع التنمية، فقد انقلبت الأحوال تماما في الخمسين سنة الأخيرة مع ثورات الإلكترونيات والهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية وعلوم المواد والفضاء والطاقة النووية والليزر، والزيادة فى القيمة المضافة لاقتصاد أمريكا -مثلا- تعود في 87.5% منها إلى تطور التكنولوجيا فى مقابل 12.5% فقط لنصيب الاستخدام الرأسمالى والعمالة، وهو انقلاب على نمط اقتصاد وتصنيع قديم يعتمد على ثلاثية رأس المال والعمالة والمواد الخام، وأزمتنا الأمنية والاقتصادية الراهنة تعود فى غالبها إلى تخلفنا العلمى والتكنولوجى، فالنمط الغالب على علاقتنا بالتكنولوجيا هو الاستعارة أو تسليم المفتاح، ولا يمكن القفز على فجوة التخلف التكنولوجى بدون تخطيط مركزى للدولة، ووضع استراتيجية البحث العلمى وتمويلها وربطها بمؤسسات الإنتاج (العامة والخاصة)، أيضا لا يمكن تحقيق نهضة بدون اختيارات تكنولوجية ملائمة فى مجالات تخدم طفرة الإنتاج الزراعى والصناعى والموارد المائية وتوطين تقنية المعلومات وصنع شرائح السيليكون وكسر احتكار تكنولوجيا الذرة والفضاء، والخطوة الأولى تعبئة الموارد المالية والعلمية وكلها متوافرة وممكنة التكامل فى إطار عربى شامل، وحفز الإنفاق على التعليم والتطوير والبحث العلمى وتطوير نموذج تنمية يزاوج بين التشغيل الكامل والطفرة التكنولوجية معا.

ولا نهضة لنا-خامسا- بدون الديمقراطية كلها للشعب، فالديمقراطية صمام أمان ضد انتكاسات النهضة الدورية، والديمقراطية مدرسة الشعوب، والديمقراطية تقدم الاختيارات والبدائل كلها للناس وتطور مقدرتهم على المعرفة وإدراك الحقائق، ولا ديمقراطية حقيقية بدون ضمان الحقوق التامة فى التعدد السياسى والفكرى والنقابى والأهل، ولا ديمقراطية حقيقية بدون ضمان تداول السلطة بكافة مستوياتها عبر صناديق الانتخاب المباشر الحر والنزيه، ولا ديمقراطية حقيقية بدون فصل وتوازن قوى السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، ولا ديمقراطية حقيقية بدون تأكيد حقوق الإنسان وحرياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية كافة، ولا ديمقراطية حقيقية تفصل السياسة عن المجتمع، فحرية تذكرة الانتخابات مرتبطة بحرية رغيف العيش، وحرية الكلمة والتعبير هى أم الحريات، ولا حرية للكلمة بدون تحرير وسائل الإعلام كافة من وصاية السلطات، وضمان حرية تدفق المعلومات التى تمكن المواطن من إبداء الرأى والمشاركة في صناعة القرار، وحريات الحركة الجماهيرية أكبر ضمان ضد انتكاسات الديمقراطية، وتزدهر الديمقراطية كلما كانت حركة الجماهير في الشارع أقوى تأثيرا وأعلى صوتا من منابرها التمثيلية في البرلمان المنتخب

ولا نهضة لنا-سادسا- بدون تجديد الذات الحضارية، فالحضارة هى أسلوب حياة ومعنى شامل يتضمن تقاليد النظر للكون والوجود والحياة والإنسان والأفكار والقيم وعلاقات الإنتاج وطرائق التنظيم السياسى والاقتصادى والاجتماعى، ولكل حضارة أو ثقافة خصوصية لا تفهم بمعزل عن تكونها التاريخى، وحضارتنا العربية الإسلامية هى ملك ومن صنع أبناء أمتنا جميعا مسلمين ومسيحيين، وقد تعرضت حضارتنا لصنوف من المحو والتشويه مع عهود السيطرة الاستعمارية، وما حدث لحضارتنا وقتها يسير لو قورن بالتحديات الماثلة الآن، فالشركات متعدية الجنسيات تقوم بتدويل رأسمالية الغرب، والتطور الهائل في وسائل الاتصال -مع نفوذ القطبية الأمريكية- يهدد بتدويل ثقافة الغرب، والهدف: تنميط الكل بدعوى الحضارة العالمية الواحدة، ونحن لا ندعو لانغلاق أو قطيعة حضارية، نحن ندعو لتفاعل وحوار متكافئ من مواقع الاستقلال، والاستقلال يبدأ بالمواجهة الفاعلة لتعميم وتسييد نموذج الحضارة الغربية كنموذج للحضارة الإنسانية الشاملة؛ فقد كانت هناك دائما حضارات تسود، وحضارات تتنحى إلى حين، لكن دورات الصراع والتفاعل الحضارى كانت تسمح دائما للحضارات الأصلية بالازدهار مجددا، وحضارة الغرب تسود الآن، بينما حضارتنا فى وضع المتنحى لا الميت، وليس المطلوب أن نغلق الأبواب والنوافذ فى وجه حضارة الغرب، بل أن ننتقى من إنجازاتها الضخمة ونهضمها ونتمثلها فى إطارنا القيمى الثقافى الحاكم ، فتجديد الذات هو الأساس، ووصل ما انقطع مع مواريثنا الحضارية مطلوب، وهو لا يتعارض مع الانفتاح على حضارة الغرب وعلومه الطبيعية والأساسية وإنجازاته التكنولوجية بالذات.

ولا نهضة لنا-سابعا- بدون باندونج جديدة، كانت باندونج فى الخمسينيات عنوانا لحركة عدم الانحياز، ولم يكن عدم الانحياز موقفا سلبيا فى عالم الاستقطاب الثنائى وقتها، ولم يكن ترددا متذبذبا بين اختيارين كلاهما من بنات أفكار التاريخ الغربى القاهر، كانت حركة عدم الانحياز صوتا داويا وتكتيلا مؤثرا وتجسيدا لحق شعوب الشرق والجنوب فى حرية الاختيار والقرارات، وتعرضت الحركة لموجات من المد والجزر ومحاولات الاستقطاب من هنا أو من هناك، ثم توالت وقائع الدراما العاصفة عند القمة، وزال الاستقطاب الثنائى بتفكك الاتحاد السوفيتى، وحلت القطبية الأمريكية وحدها حتى إشعار آخر، وتدهورت أدوار حركة عدم الانحياز بأثر من تغير البيئة الدولية وبأثر من زوال قادتها التاريخيين وتراجع حركة الثورة في العالم الثالث، عبر تدفق موجات العولمة الاقتصادية والتى تمثلت في وحدة الأسواق المالية والائتمانية في العالم. والدور البارز الذى أصبحت تلعبه الشركات المتعدية الجنسيات، بالإضافة إلى تصاعد قوة المؤسسات الدولية الكبرى مثل البنك الدولى وصندوق النقد الدولى ومنظمة التجارة العالمية، وكما ظهرت تجليات العولمة السياسية بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتى ونهاية الحرب الباردة فى حق التدخل من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والحلف الأطلسى فى الصومال ويوغوسلافيا وفرض الحصار -والاجتياح العسكرى أحيانا- على ليبيا والعراق والسودان. ولعل ذلك كان من أخطر تجليات العولمة على المنحى الثقافى فيما يفرض من محاولات صياغة ثقافة كونية تتضمن قيما ومعاييرا لكى تحكم حركة الشعوب. والمطلوب الآن: الحفاظ على جوهر عدم الانحياز مع إبداع صيغ جديدة ملائمة لما جرى من تغيرات، ونتائج

. رغم ذلك، فإمكانات الحركة على المسرح واسعة، فزوال الاحتكام لخيارين جعل الأمم تعود إلى ذواتها تطلب المدد والعون، والنتيجة: عالم جديد سوف يكتسب حريته، وتعدد متزايد فى اختيارات النهضة مع وجود عناصر مشتركة بطبيعة الأشياء، فكثافة السيطرة الغربية مع عدم التكافؤ وسيادة الظلم كلها تستنفر ممكنات المقاومة، ولدى العرب -بالذات- إمكانات حركة دولية غير مسبوقة، فلهم مخزون الانتماء إلى عالم إسلامى (خمس البشرية) وشعوب نامية تتعاظم مفرداتها السياسية ومواردها البشرية والطبيعية، وهم يستطيعون لو أرادوا تحويل ذلك إلى صيغ فعالة حضاريا واقتصاديا فى تحالف شامل للمستضعفين يضم حضارات هذه الشعوب، وهذه نقطة البدء نحو باندونج الجديدة.
وهى نقطة البدء كذلك صوب بناء تحالف أممى شعبى مع جماعات العولمة البديلة التى زاد عددها واتسع فعلها؛ كما تعمق لديها قضايا مواجهة العولمة، واستبدادها واستغلالها، وكذلك دفاعها وتبنيها لقضايا تحرير فلسطين والعراق، ولعل نجاحنا فى بناء ذلك التحالف يجعلنا فى قلب قضايا العالم، ويوطد من موقف جماعات العولمة البديلة مع قضايانا.

الكرامة : إنقاذاً لمصر

نهضة العرب تبدأ بنهضة مصر، وما أبعد ا لمسافة بين مصر الآن ومصر التى ينبغى أن تكون، ما أبعد المسافة بين ما حل بمصر وما تقدر عليه بمواردها وإمكاناتها وعمقها العربى والإسلامى.
ونحن -مع غيرنا- نتقدم لإنقاذ مصر من الاختراق وتدنى المكانة والدور، وتسلط القهر، وتداعى الشرعية بسوء السياسة وبؤس الاختيارات وتزييف إرادة الناس، وتوحش الفساد الذى تحول إلى مؤسسة مسيطرة على مفاتيح السياسة والاقتصاد، وتحول مصر إلى مجتمع 2% المحتكرة لـ40% من الدخل القومى، وانتشار الفقر والمرض والجهل وسكن القبور وعجز الغالبية عن تلبية أبسط مطالب الحياة الكريمة، والتخلف المرعب في تدريب واستثمار القوى البشرية الكثيفة، وتدهور مؤسسات ومراكز البحث العلمى، وتضاعف مخاطر اندثار الصناعة الوطنية، وانحطاط التنمية، وتداعى المقدرة على اطراد الإنتاج واكتساب التكنولوجيا.

وبلاغة المشهد فى عمومه لا تغنى عن بعض التأمل في تفاصيل أحوال مصر. كانت حرب أكتوبر 1973أخر طلقة مدفع من على جبهة النهضة، صبرت مصر على هزيمة 1967، ودفعت من قوتها وأعصابها ودماء شهدائها، وأثبتت أنها قادرة على الصمود والنصر، وأكملت دورة ربع قرن -بدأت مع تفاعلات نكبة 1948- من النهوض بانتصاراته وإخفاقاته، أسقطت عهود الاحتلال والسيطرة الأجنبية على الموارد والمقدرات، أسقطت مجتمع النصف فى المائة المحتكرين بالإقطاع لأغلب الدخل القومى، واندفعت تخوض معاركها ومعارك أمتها العربية، وحققت الاستقلال الشامل رغم كثافة الضغط وتربص الكبار، استعادت قناة السويس وبنت السد العالى وقلاع الصناعة الكبرى، وصنعت لنفسها حياة تليق ببناتها وقواها العاملة والمنتجة، ولم تلجأ لمعونات خارجية حجبت عنها بإصرار، ومع ذلك حققت تنمية هائلة بكل المقاييس، فى عشر سنوات -بين عامى 1956 و1966- حققت تنمية تفوق ما جرى فى أربعين سنة قبلها، متوسط النمو المنتظم بأرقام البنك الدولى ذاتها كان يجرى بنسبة 7.7% سنويا مع تواصل الصراع وبالسلاح مرات، فى 1956 و1967 والملحمة الباسلة لحرب الاستنزاف التى توجت بالعبور العظيم فى 1973، وتمكنت من زيادة الرقعة المنزرعة على أرضها بنسبة 30%، ومع هزيمة 1967 لم تسقط التجربة ولا تراجع زخمها، سدت مصر باب القروض المهينة حتى لا تقع في فخ الديون المنصوب، ووجهت غالب مواردها للجيش وجبهة القتال، مع ذلك استمرت التنمية على استقلالها وحيويتها، وحافظت على متوسط نمو اقتصادى معقول رغم التكاليف الثقيلة للمجهود الحربى، كانت نسبة النمو فى مصر تجرى بمتوسط سنوى وصل قدره إلى 5.14% بين عامى 1969 و1973، لم يكن اقتصاد مصر عند نقطة الصفر كما روجوا، كان ذلك بدءا من حملة واسعة مخططة تخفت وراء مشروعية النقد لتصل إلى جرائم النقض، كانت الحملة ضد سنوات النهضة أشبه بستار كثيف من الدخان، وتقدم المشاة -تحت الدخان- من مواقع السلطة للانقضاض على اختيارات النهضة، وكانت الاختيارات البديلة: التبعية باسم الانفتاح و"الاستسلام" -خطوة خطوة- لـ "إسرائيل"، وديمقراطية الأنياب والأظافر والعلاقة الخاصة مع أمريكا، وانهالت المعونات والتدفقات المالية لتوحى برواج ينسى ويلهى، أكبر التدفقات المالية من عوائد البترول وصلت إلى مصر فى الفترة من 1974-1979، وكانت نسبة النمو فى مصر وقتها تجرى بمتوسط سنوى قدره 10.94%، كان القطاع العام ما يزال صامدا ويتوسع رغم التغير فى الدور، وفى الفترة بين 1980إلى 1984تراجعت نسبة النمو الظاهرى إلى متوسط قدره 6.99%، وفى الفترة ما بين 1985إلى 1989كانت نسبة النمو في مصر تجرى بمتوسط سنوى قدره 2.92%، كان الارتفاع الظاهر فى نسب النمو بعد 1973محكوما بظروف خارجية استدعت جهدا مكثفا لتسيير الأمور وتسهيلها في مصر، وعندما زالت هذه الظروف فقد أصبح على مصر أن تواجه مشاكلها وهى وشأنها: تعوم أو تغرق، والأفضل طبعا أن لا تعوم ولا تغرق، كان الثمن الذى دفعته مصر غاليا وفادحا، كان الثمن: بيع قرارها السياسى والاقتصادى، وصلح منفرد مع "إسرائيل" مقابل عودة سيناء منقوصة السيادة، وإغراق فى الديون (وصلت إلى 50مليار دولار) لتسهيل احتلالها واختراقها بالتدريج، وإغراء بمعونات أمريكية تدفقت على مصر بعد صلحها مع "إسرائيل"، وتزايد رقم المعونات لتصل في مجموعها إلى 50 مليار دولار حتى الآن، وفعلت المعونات فعلها، خلقت طبقات مستفيدة تحولت بالتدريج إلى أقوى جماعات الضغط، ولم تخسر أمريكا مما دفعت سنتا واحدا، فقد استردت مقابل الـ 50مليار معونة ما يزيد عليها من صادراتها بالأسعار المزيدة إلى مصر، أيضا: جرى تجيير ثقل مصر لتسهيل صفقات التسوية بين العرب و(إسرائيل)، وتخلقت ظروف مواتية لفرض وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، وتدهور معدل النمو السنوى فى متوسط الدخل الفردى فى التسعينيات، وبدأت هوجة بيع كل شىء فى مصر باسم الخصخصة بدعوى تحرير الاقتصاد ومنع تدخل الدولة، وجعل قرارات الاقتصاد الأساسية حكرًا لوصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، واصطناع وتهجين "قطاع خاص" بتوكيلات المعونة الأمريكية، وكانت النتيجة: "تكييف هيكلى" انهى عصمة الدولة، وتزايد بنفوذ القطاع الخاص -المصطنع- إلى حد السيطرة على صناعة القرارات الاقتصادية الكبرى؛ فقد تراكمت مليارات المال الحرام عند -"جماعة البيزنس"- دون مقابل إنتاجى أو قواعد اجتماعية، وضغطت الثروات الطافية بشدّة فى توافق مع المكون الأمريكى الطاغى فى صناعة القرار المصرى، وتراجعت فى اطراد جملة الاعتبارات المحلية عند صانع القرار، وتضاءلت هوامش الممانعة، وجرى التورط فى قرارات -أشبه بالمقامرات- لا تأخذ فى حسابها ظروف الاقتصاد الملموسة، وكانت ذروة التراجيديا فى قرار "تعويم سعر الصرف" الذى اغرق الجنيه المصرى أو يكاد، نزلت قيمة الجنيه إلى النصف فى عام واحد بعد قرار "التعويم" الذى ضغط صندوق النقد لأجله من أوائل التسعينات، وجرت الاستجابة الكاملة للضغط أوائل 2003، وفى بيئة تزاوج فيها الضغط الأمريكى -إلى حد التهديد بالسلاح- مع سعى "جماعة البيزنس" للاستيلاء الكامل على قيادة الحزب الحاكم، وتفاقم جنون الدولار، وانفلات الأسعار، تضاعفت أسعار السلع الأساسية فى عام واحد، والخطر يزيد مع انكشاف الاختلالات الهيكلية للاقتصاد غير المشفوع بطابع إنتاجى، وغير القادر على التطور بطاقة التصدير أو إحلال الواردات؛ ومع تفشى النهب العام بمعدلات فلكية، وسيادة الركود فى الأسواق، وتضاعف معدلات التضخم إلى ما يجاوز حدود الخطر، وسد العجز المتزايد فى الموازنة بخفض الإنفاق على الخدمات والاقتراض من الداخل والخارج بأذون الخزانة، و"خطف" مليارات المعاشات والتأمينات للإيحاء بخفض صورى فى ديون الحكومة، أضف ان فوائض ميزان المدفوعات من دخول ريعية معرضة للخطر فى أى لحظة، وأغلبها من زيادة إيرادات الملاحة، ورسوم المرور فى قناة السويس، وتحويلات المصريين فى الخارج، ويقدر ما وصل من هذه التحويلات إلى ما يزيد عن 80مليار دولار فى سنوات "الانفتاح"، فى المقابل تراجعت إنتاجية الاقتصاد على نحو مرعب، تراجع نصيب الزراعة في الناتج القومى إلى 16.3%، وانخفضت نسبة الصادرات إلى 12.1%، وتراجعت عمالة الزراعة إلى 32% من إجمالى العمالة، وتراجعت مساهمة قطاع الصناعة إلى 17%، ولم تعد تستوعب غير 13% فقط من قوة العمل، ومع الخصخصة يتوقع طرد 25% من عمال القطاع العام حسب تقديرات الحكومة ذاتها، ورغم إسقاط ثلث ديون مصر الخارجية مقابل لعبها لدور مرسوم فى حرب الخليج الثانية، رغم ذلك مازالت الديون عبئا ثقيلا، ناهيك عن حجم الدين الداخلى الذى تجاوز رقم الـ 500 مليار جنيه، فى الوقت نفسه تستمر الحكومة فى التفريط بحقوق الدولة، وتقدم مزايا واستثناءات وإعفاءات ضريبية هائلة-غير متاحة في أى دولة- لفئات المستثمرين المحليين المرتبطين بالأجانب، ويذهب أكثر من ثلث الاستثمارات (35.2%) إلى المضاربة العقارية، وهو ما يزيد من ضعف الإنتاجية وينخفض بأرقام التصدير مفرطة التواضع، والنتيجة: عجز متفاقم فى الميزان التجارى، بيع 1673 مشروعا مملوكا للمحليات، وبيع شركات القطاع العام التى يقدر عددها بـ 392شركة، ومنع شركات القطاع العام -بالأمر الحكومى المباشر- من زيادة استثماراتها بفوائض أرباحها، بدأ البيع بالشركات الرابحة، وطرحت للبيع شركات وصروح الصناعة الثقيلة مثل الترسانة البحرية والمراجل البخارية وغيرها، وأيضا.. بيع المرافق العامة، جاءت البداية بخصخصة التليفونات والكهرباء، وفى الطريق: خصخصة للسكك الحديدية والبريد والنقل العام والمياه وخدمات الصرف الصحى والشحن الجوى وشركات تابعة لمرفق قناة السويس، وجرى سن تشريعات مريبة تتيح للأجانب تملك الأراضى وإنشاء المطارات والطرق والموانى، والشعار المرفوع: كفاءة القطاع الخاص، بينما استثمارات القطاع الخاص -في الـ20سنة الأخيرة- لا تزيد كلها عن 30مليار جنيه، ولم يوفر القطاع الخاص سوى 400 ألف فرصة عمل مقابل ملايين العاملين في الحكومة والقطاع العام، والتوجه إلى بيع شركات التأمين العامة رغم امتياز وتفوق أدائها، وبيع بعض حصص بنوكنا العامة.

وطبيعى أن هذه السياسات لا تدور فى فراغ اجتماعى، إنها تعبر عن انحياز لقلة طفيلية ربطت مصالحها بالرأسمال الأجنبى، وسرعان ما تكاثفت ملامح أبشع سيطرة لرأس المال عل الحكم، وأى قراءة عابرة للمشهد توحى بالظواهر المفزعة، 2% من السكان يملكون 40% من إجمالى الدخل القومى و8% من السكان يحصلون على ثلثى الدخل القومى و68% من السكان يملكون مالا يزيد عن ربع الدخل القومى، وطبقة وسطى تتآكل فى اطراد و30مليون مواطن تحت خط الفقر حسب الأرقام الرسمية، وثلاثة أرباع السكان تحت خط الكفاف لا الكفاية، وتفاوت الثروات بنمو بصورة مرعبة، والمليونيرات فى أوائل التسعينيات: كان فى مصر 50 فردا تبلغ ثروة الواحد منهم ما بين 100 إلى 200مليون دولار وقد تحول أغلب هؤلاء إلى مليارديرات الآن، أوائل التسعينيات أيضا: كان فى مصر 70ألف فرد تتراوح ثروة كل منهم ما بين 5 إلى 10ملايين دولار، وكان فى مصر 3620فردا تتراوح ثروة الواحد منهم ما بين 10إلى 100مليون دولار، وحدث ولا حرج عن عدد مليونيرات مصر الآن، وفاتورة المرسيدس السنوية وصلت إلى 2.5مليار بنيه في أبسط التقديرات والتهرب الضريبى وصل إلى ما يقرب من 30 مليار جنيه، وجماعة لصوص القروض نهبت 200مليار جنيه، وأبناء الكبار تحولوا إلى مليونيرات بشهادة الميلاد، والدخل السنوى للاقتصاد الأسود يكاد يقترب من حجم الدخل القومى المنظور، ويصل حجم الأموال المصرية المنقولة للخارج إلى 200 مليار دولار، وأفراح الكبار تحولت إلى مواسم استفزاز وترف وحشى، وكل هذه الثروات الحرام -باستثناء عشرة في المائة على الأكثر- لا علاقة لها بالحقائق الاقتصادية، فلا قيمة إنتاجية مضافة ولا ضرائب تدفع بالقانون وضوابطه، بل دوران حول القانون واستهتار به، وسيادة لمنطق الاستغلال وسطوة النفوذ.

في المقابل: تعيش الأغلبية الساحقة في الفقر والجهل والمرض، ترتيب مصر فى تقارير التنمية البشرية رقم 122 بين 185دولة هم مجموع أعضاء الأمم المتحدة، وبين الدول العربية رقم 13، فالخدمات الصحية تتدهور، والإنفاق على الصحة لا يزيد عن 1%، والمنشآت الصحية التابعة للدولة تتدهور أحوالها في اطراد، والاستثناءات قليلة والكفاءة الطبية تتدهور حتى في مستشفيات العلاج الاستثمارى باهظة التكاليف، و55% من الأطفال يعانون الأنيميا، و40% من الأطفال مصابون بسوء التغذية حسب الأرقام الرسمية، متوسط نصيب الفرد من الغذاء 586كيلوجراما في السنة (بينما الرقم في إسرائيل 2367 كيلوجرام)، ونسبة المهمشين تقارب ثلث مجموع السكان، والبطالة تتوحش، جيش العاطلين المحبطين اليائسين يصل إلى 7 ملايين شاب أى 25% من إجمالى قوة العمل، وعدد العاطلين من حملة المؤهلات يصل إلى 3 ملايين تقريبا، والأرقام يتوقع تزايدها في اطراد مع حملة المعاش المبكر وطرد عمال القطاع العام، أضف ما يجرى من تنفيذ لقانون طرد الفلاحين (تعديل علاقة المالك والمستأجر للأرض) وهو ما يهدد بطرد مليون و0ه2 ألف مستأجر إلى رصيف البطالة والبؤس، وفى الوقت الذى تتفاقم فيه ظواهر الإسكان الترفى، وتعرض شقق بأسعار تصل إلى عدة ملايين من الجنيهات للشقة الواحدة، ويحجز الملاك ملايين الشقق الخالية رغم تحرير الإيجارات الجديدة، فى الوقت نفسه تتفاقم أزمة الإسكان حتى تحولت إلى مأساة إنسانية اجتماعية مدمرة، وتتزايد ظاهرة الإسكان العشوائى بصورة عديدة بينها سكن العشوائيات وسكن الإيواء وسكن المقابر وسكن الشرك وسكن المساجد وسكن الدكاكين وسكن قبوات السلالم وسكن المخابئ وسكن البدرومات وسكن القوارب وسكن العشش وسكن الزبالين، ويقدر أن 86.2% من إجمالى الأسر فى مصر تعيش فى سكن غير ملائم بينهم 25% من إجمالى السكان يعيشون فى العشوائيات، ورغم الزيادة النسبية فى الإنفاق على التعليم إلى 10% من الإنفاق العام (كانت فى الستينيات 15%)، رغم ذلك يتدهور التعليم، وتتعقد الصورة بإهدار مبدأ تكافؤ الفرص وإنشاء جامعات خاصة والأخطر: تعدد الأنظمة التعليمية والتوسع فى التعليم الأجنبى من الحضانة حتى الجامعة، وهو ما ينشئ طبقية تعليمية ويضيف نخبا متعلمة مغتربة عن سياق المجتمع وهمومه وملتحقة بمصالح الغرب وظنونه، أضف لذلك ضآلة الإنفاق على البحث العلمى، ميزانية البحث العلمى فى مصر أقل من 0.2% ("إسرائيل" مثلا تخصص نسبة 3% من الدخل للبحث العلمى)، والعجيب: أن 80% من الإنفاق بالغ التواضع يخصص للأجور والرواتب والبدلات، والمعنى: أن الأبحاث نفسها يكاد لا ينفق عليها شىء تقريبا، رغم وجود ثروة بشرية تصل إلى 114ألف شخص من العلميين والمهندسين والفنيين والمعاونين، الأعجب: أنه لا توجد استراتيجية وطنية للعلم والتكنولوجيا، فقد توقفت مشاريع التطوير التكنولوجى الطموحة التى بدأت فى الستينيات، وقتها كانت لدى مصر خطة تقدم طموحة، وكانت لدينا مشاريع لإنتاج طائرة "القاهرة 2000"، وصواريخ "القاهر"، و"الظافر"، و"الرائد"، وأدت المشروعات كلها، وأجهض البرنامج النووى فى السبعينيات والثمانينيات والتسعينات إلى اليوم بضغوط أمريكية. ومع الفشل الاقتصادى والسحق الاجتماعى، زادت وطأة القهر والاستبداد السياسى، حرية تكوين الأحزاب معطلة تماما، فلجنة الأحزاب الحكومية هى التى تمنح وتمنع، فالحكومة هى التى تقرر اختيار من يعارضها وتعطى له الضوء الأخضر، والأحزاب التى سمح بها -أغلبها ورقية- خرجت من باب محكمة "استثنائية" هى الأخرى، ودورات الانتخاب النيابى يشوبها التزوير وبصورة وحشية، ومجلس الشعب يفتقد الشرعية بتقارير محكمة النقض وهى أعلى مراتب القضاء، والتدخل الإدارى والأمنى ثقيل الوطأة في انتخابات النقابات العمالية، والنقابات المهنية جرى اغتيالها بالقانون 100، وجرى فرض الحراسة على أكبرها وزنا وتأثيرا، وجرى حظر النشاط السياسى للطلاب وهيئات التدريس فى الجامعات وتحولت اتحادات الطلاب إلى هيئات شبه معينة، وألفى نظام انتخاب العمداء والعمد، وقضايا الرأى تحال للمحاكم العسكرية، وقانون الطوارئ حل عمليا محل الدستور، وتحولت السجون والمعتقلات وأقسام الشرطة إلى أفران تعذيب وسلخانات بشرية، وتفشت سياسة الضرب فى المليان والقتل خارج القانون والاختفاء القسرى واحتجاز الرهائن وتصاعدت أحداث العنف والعنف المضاد.

ومنحى جماعات العنف -الذى تراجعت ظواهره- مدان بلا جدال، لكن الدولة تصرفت أيضا كجماعة عنف فى أغلب الأحيان، تصرفت خارج القانون بعنف البوليس واستهتارا به فى المحاكم العسكرية، ولا يمكن عزل ظاهرة العنف عن سياقها الاجتماعى السياسى، فالتناقض الحاد بين الغنى والفقر سبب شعورا بالاستفزاز يصعب تجاهله، والصدمات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية جمحت والشعور بالإحباط سد الطريق أمام المستقبل، وكان محتما أن تجمح أسباب العنف وموجباته، أضف لذلك ما جرى ويجرى من كبت سياسى وإغلاق لبعض الصحف وتقييد حقوق إصدارها إلى حد المنع البات إلا فيما ندر، أضف لذلك -أيضا- سياسات الإلحاق بأمريكا والتطبيع مع إسرائيل والخضوع لها باسم السلام، والنتيجة: زيادة منسوب السخط مع العجز عن التغيير أو التعبير أو حتى التنفيس، والنتيجة أيضا: انتفاضات تلقائية تأخذ طابعا اجتماعيا متزايدا، كمثال: ما جرى مع اعتصام وإضراب عمال كفر الدوار أوائل أكتوبر 1994، مثال أخر: انتفاضة الفلاحين خلال عام 1997، التى سقط خلالها عشرات الشهداء وجرى اعتقال مئات الفلاحين وطلائعهم المثقفة، وهى أوسع تمرد اجتماعى على امتداد القرن كله فى مصر، وقد كانت تلك كلها علامات تشى بحالة انفصام متفاقم بين ظاهر مصر وباطنها، فى الظاهر: يبدو الهدوء عقيمًا مخيمًا على السطح المصرى، وفى الأعماق: "آبار غضب" تغلى وتفور، فى الظاهر: تبدو مصر كأنها بغير شعب وبلا حركة سياسية متطورة، وفى الأعماق: "سياسة جوفية" كما حال الآبار الجوفية، وفى لحظة اجتماع الذلّ الاجتماعى إلى الذل القومى، مع أول صاروخ أمريكى سقط على رأس بغداد فى حرب الاحتلال؛ زحف الغضب التلقائى الجارف إلى "ميدان التحرير"، رافعًا صور رمز الكرامة العربية- صورة الزعيم عبد الناصر- ولم يكن ذلك فى مصر فقط؛ إنما كان فى أرجاء المعمورة العربية، وكذلك الجاليات العربية فى أوروبا والأمريكتين؛ ودار صدام هو الأعنف -منذ أحداث انتفاضة 1977- بين جموع الغضب وقوات البوليس، والتحمت شعارات الغضب الاجتماعى السياسى مع شعارات الغضب القومى فى هبة 20 و21 مارس 2003، والمغزى: ان ما جرى وقتها ينذر -مع تضاعف دواعى الغضب القومية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية- بانفجار وتفاعل تندفع إليه مصر، ونظن ان "ساعة الصفر اقتربت أو توشك.
هذا جزء يسير من أحوال مصر والنتيجة: تداعى دور مصر ومكانتها، فمن يفقد قوته بالداخل لا يجد السند فى الخارج، والسياسة الخارجية امتداد طبيعى للسياسة الداخلية، ولا سبيل لإنقاذ تستقيم به الحقائق مع الوقائع بغير التغيير السياسى الشامل، ومصر تطلب التغيير وتستحقه، فليس من طبائع الجغرافيا والتاريخ أن نبقى كما نحن.

الكرامة : خطة عبور

والسؤال: إلى أين من هنا؟
الزمان: سنوات معدودة بعد بدء الألفية الثالثة، والدنيا من حولنا فوارة موارة بالتحولات وسباق الأمم ويقظة الشعوب ونهضة الحضارات، والعرب في غيبوبة حضارية وسياسية واقتصادية وأمنية، ومصر حائرة البال موزعة النفس زائغة اليقين بين مقاديرها وأقدارها، مقاديرها قيدتها بأزمة مركبة لا تزال تعوق نهضتها وتقدمها، وأقدارها -بقوانين الجغرافيا وخبرات التاريخ ووعى العصر- تستنهض وتستحث إلى حل جذرى يضعها في مكان يليق فوق ناطحة سحاب عربية، مصر غائبة عن دور.. أى دور، وآن لها أن تنهض إلى دور بطولة حجز لها وحجزت عنه.

وأول الطريق: خطة عبور، قبل ربع قرن كانت مصر تعبر من هزيمة خاطفة إلى نصر مخطوف، حولوا نصرها بالسلاح إلى الهزيمة بغير سلاح، ومدت الهزيمة يدها المسمومة إلى شغاف الروح، وكادت تصيب العصب بالعطب، ومصر مقيدة نعم، لكنها لم تمت ولن تموت، مصر مكبلة نعم، لكنها لم تفقد الأمل ولا قتلها السجن بالملل، مصر في قيودها نعم، لكنها -بالفطرة المطمورة- تعرف اتجاهات الرياح إلى مجدها العالى فى فضاء البراح، مصر قد تختلط عليها السبل وإشارات المرور، لكنها -وهى المحروسة- لا ولن تضيع أبدا. أول طريق مصر: عقد اجتماعى جديد فى البيت الوطنى، وعقد قومى جديد فى البيت العربى، وعقد حضارى جديد تبتعث به دورها القيادى الطبيعى فى وطنها العربى وعالمها الإسلامى والنامى وإلى مدى عينها المفتوحة على الشرق وفيض نيلها من الجنوب، العقد الاجتماعى الجديد يعيد تنظيم البيت الداخلى ويلبى الاحتياجات الأساسية للشعب بأعرض فئاته وطبقاته، ويضمن المشاركة -أوسع المشاركة- للقوى الحية جميعها فى صياغات السياسة والاقتصاد والثقافة، والعقد القومى الجديد يعيد تنظيم العلاقات بين أقطار الوطن العربى، ويرشد طرق التصرف والتعامل ويقيم الأسوار الواقية عند "مناطق حرام" لا يجوز الخلاف أو الاختلاف فيها أو عليها، ومهما بلغت الضغوط وكانت الظروف، ويعطى للأمة فرصها فى التقاط الأنفاس وإمعان البصر فى مغزى ما يوجد وجدوى ما يجب، نريد بالعقد الاجتماعى -مع العقد القومى- أن نبنى مجتمع العزة والكرامة ومجتمع الكفاية والعدل، ومجتمع الوحدة العربية.
والعقد الاجتماعى -مع العقد القومى والعقد الحضارى- كلمة السر فى خطة العبور للنهضة وهو الأصل والأساس فى مجتمعنا الذى ننشده، وفى برنامجنا الذى نسعى لتحقيقه، ونرى -فيما يلى- عددا من رءوس الجسور. . بينها:

أولاً: نسعى لبناء مجتمع الإرادة الوطنية

الذى يبدأ بالاعتراف بحقائق الجغرافيا والتاريخ التى نسجت حلقات الربط بين الأمن الوطنى المصرى والأمن القومى العربى، فمصر هى حلقة الوصل بين أقطار المشرق العربى وأقطار المغرب العربى، وهى حلقة الوصل بين أسيا وأفريقيا، وبين البحرين الأحمر والأبيض، وموقع مصر مصدر ضعف لها إذا ما استكانت ووقعت فريسة للأطماع الأجنبية، وهو مصدر قوة لها إذا ما اتبعت سياسة قومية عربية نشيطة وإيجابية، ولا تستطيع مصر -كأى دولة- ضمان أمنها بدون قوة عسكرية كافية ومجتمع متماسك واقتصاد قادر متوازن، وخطوط الدفاع عن مصر تبدأ شمالا عند الحدود التركية وشرقا عند شواطئ الخليج وجنوبا عند أعالى النيل وغربا عند حافة المحيط الأطلنطى، وهو ما يوجب على مصر أن تقوم من أجل عودة دورها القيادى العمل على محورين، أولهما الداخلى الذى يتجه إلى توفير قوت الشعب من عمل الشعب، والتخلص من التبعية وبناء التنمية المستقلة واعتماد الديمقراطية أسلوبا للإبداع والتقدم. وثانيهما أن تقوم مصر بدورها القيادى فى إنهاء حالات الحصار والاحتلال المفروض على بعض الأقطار العربية، وبناء الوحدة من أسفل بين الشعب العربى في كل الأقطار العربية ووجود (إسرائيل) فى ذاته يمثل أفدح الأخطار على أمن مصر والعرب جميعا وهو ما يوجب دورا مصريا قياديا عاجلا فى تصفية التناقضات العربية/ العربية وتوفير وسائل العلاج المبكر للأزمات وفض المنازعات سلميا ووقف إيذاء الشعوب بخلافات الحكام، واعتبار حرب العربى مع العربى منطقة حرام، وتعزيز التضامن العربى بمؤتمرات قمة جادة تقصد سنويا، وبعث الفاعلية فى الجامعة العربية ومؤسسات العمل العربى المشترك، ودعوة الأقطار العربية التى تقيم فيها عمالة أجنبية إلى إنهاء وجودها والاستعاضة عنها بعمالة عربية، وتقليص فجوة الغذاء المهددة للأمن القومى بتكامل أقطار النفط مع أقطار الماء و"حزام القمح" فى مصر والسودان والعراق وسوريا والمغرب، ومطابقة خرائط الأمن مع خرائط الماء بمواجهة المخاطر القادمة من دول المنابع فى تركيا وأثيوبيا، وفض تحالفهما مع (إسرائيل، ورد إريتريا لعروبتها وفض تعاونها مع (إسرائيل) فى جزر البحر الأحمر، واسترداد عافية الصومال وإعادة توحيدها، وتفعيل معاهدة الدفاع العربى المشترك، واستبدال المناورات العسكرية مع الأجانب بمناورات دورية مشتركة للجيوش العربية، وإقامة حلف عسكرى عربى بعد التخلص من القواعد العسكرية الأجنبية فى بعض الأقطار العربية، وتوفير الإنفاق الجنونى على شراء السلاح لدعم إنشاء وتطوير هيئة عربية مشتركة للتصنيع العسكرى، ودعم التصنيع العسكرى فى المجالات الحساسة خاصة صناعة الصواريخ بعيدة المدى، وجلب تكنولوجيا الأقمار الصناعية وإطلاقها، وإنشاء هيئة عربية نووية تكون سبيلنا لدخول نادى الكبار وامتلاك ترسانة واقية من القنابل النووية، والعمل على امتلاك اعتبارات القوة الشاملة التى تمكننا من رفض القواعد وإلغاء التسهيلات ووقف المناورات العسكرية المشتركة مع أمريكا ورفض المعونة الأمريكية وتصفية مؤسساتها العاملة على أرض مصر، وحظر الاختراق الأجنبى لكافة المنظمات والجهات الرسمية والأهلية، وقطع جميع العلاقات مع العدو الصهيونى.. وطرد سفارته القائمة على أرض مصر، ورد الاعتبار لشهداء المقاومة ضد كامب ديفيد وفى مقدمتهم محمود نور الدين وسعد حلاوة وسليمان خاطر، والخروج من كامب ديفيد، وإنهاء التزاماتنا بموجب ما تسمى "معاهدة السلام" ولواحقها ذات الصلة، وطرد القوات الأمريكية ومحطات الإنذار المبكر من سيناء، وإلغاء المناطق المخفضة ومنزوعة السلاح، وإعادة فرض سيطرة الجيش المصرى على سيناء بالكامل حتى خط الحدود مع فلسطين المحتلة، والعمل لاستعادة قرية أم الرشراش المصرية (إيلات حاليا) المحتلة فى أعقاب حرب 1948، ومطالبة الأقطار العربية التى عقدت اتفاقات إذعان مع العدو بإلغاء تلك الاتفاقات، وتجريم وتخوين كل اتصال بإسرائيل، وإعادة بناء جدار المقاطعة العربية الشاملة، واحتضان العمل الفدائى الاستشهادى المسلح على جبهات المقاومة فى فلسطين والعراق ولبنان، وتنمية استعداد الجيوش العربية للحرب حين تفرض، وتنظيم جهد عربى شعبى متصل لدعم مقدرة شعبنا الفلسطينى على الانتفاض والبقاء على أرضه المقدسة، ورفض التفريط بشبر من أراضينا المحتلة فى جنوب لبنان والجولان وفلسطين كلها وكافة الأراضى العربية في الاسكندرونة وسبتة وملية

ثانيًا: نسعى لبناء مجتمع الوحدة العربية

ونعتبرها أهم أهدافنا وأعز أمانينا، ونعرف أن الوحدة هدف صعب لكنه ممكن، ولا نهضة لنا بدونه غير أن طريقنا إليها هو بناء الوحدة من أسفل عبر الجهود الشعبية ووعى الجماهير ومبادراتها وطريق الوحدة يبدأ بالدور الإيجابى للمواطن الفرد يتوج بإرادة القرار السياسى لإتمام الوحدة، فلا فرصة لتنمية مستقلة ناجحة لا تتكامل عربيا، ونحن نؤمن ونسعى لتكامل ووحدة اقتصادية عربية لا مجرد تعاون أو منطقة مشتركة للتجارة الحرة، وسبيلنا هو إحياء اتفاقية الوحدة الاقتصادية والميثاق الاقتصادى العربى والعمل على انضمام جميع الأقطار العربية إليها، ووضع خطة تربط الاقتصادات العربية، وتحقيق تكامل إنتاجى مبنى على تقسيم العمل، وتخصص اقتصاد كل قطر فى أنشطة إنتاجية بعينها تساعد على تعميق الصناعة العربية والنهوض بالصناعات المتطورة، ووضع برنامج تمويل لخطة التكامل، وقيام الصناديق العربية بتنفيذه، ودعم صندوق النقد العربى وتوجيهه إلى دوره فى مساعدة الأقطار الأعضاء على مواجهة العجز فى ميزان المدفوعات لتمكينها من أداء نصيبها فى الخطة القومية، وإنشاء مؤسسات مالية قوية تقوم بحماية الأموال العربية المهاجرة وإعادة توطينها فى استثمارات قومية، وتشجيع رءوس الأموال الخاصة على العمل المشترك، والعمل على إنشاء شركات عربية متعددة الجنسية تقوم بالتنافس الإنتاجى مع الشركات الدولية داخل الوطن العربى وخارجه، ويمكن البدء بتوحيد قطاعات نوعية معينة أو إنشاء تكتل اقتصادى من مصر وأقطار أكثر استعدادا على أن يضم له الجميع لاحقا، ونعرف أنه لا فرصة لتكامل اقتصادى دون أن تكون السياسة دليله، فالإرادة السياسية هى الأساس في طلب الوحدة على اختلاف وتعدد صورها الدستورية، ونقطة البداية هى دور المواطن في نسج شبكة الوحدة من متطلبات الحياة نفسها، وهذا هو طريق بناء معمار الوحدة الذى يكتمل بالقرار السياسى، ومن هنا كان لابد من النضال من أجل إقرار "حق المواطنة القومية" ومنح كل عربى حرية اختيار الإقامة في أى قطر والتمتع بكل حقوق ومزايا مواطن القطر نفسه في كافة المجالات، وضمان حرية التنقل بين الأقطار بدون تأشيرة مسبقة وبجواز سفر عربى موحد، وإسقاط الحظر القانونى "القطرى" على إنشاء أحزاب ونقابات وجمعيات قومية التكوين وتعزيز الاتحادات والهيئات القومية العربية، وتوفير تمثيل شعبى يراقب أداء مؤسسات الجامعة العربية لمهامها ويساعد على تنفيذ القرارات، وتكوين تحالف عربى جامع يضم العناصر المتقاربة من القوميين والإسلاميين واليساريين والليبراليين، وتكوين "برلمان للشعب العربى" بانتخابات حرة مباشرة على أساس الأوزان السكانية، والاتجاه لخلق عمود فقرى صلب للوحدة الشاملة باتحاد جديد يضم مصر مع ليبيا والسودان وسوريا، وهى أقطار سبق لها أن دخلت فى تجارب أو مشاريع وحدوية، ونتصور أن يكون الاتحاد الجديد قطبا جاذبا لجناحى الخليج والمغرب مع بقية أقطار العرب.

كما ان الدفع الشعبى العربى خلف مشاريع التكامل الاقتصادى العربى، والتى تستهدف تحقيق عدد من الأنشطة والبرامج مثل منطقة التجارة الحرة العربية، ومنطقة استثمارية عربية، وقيام اتحاد جمركى عربى، وكذلك منطقى تكنولوجية عربية، ومنطقة خدمات حرة، ومنطقة مواطنة عربية حيث تعطى فيها اقل حقوق المواطنة للمشتركين فيها، ومنطقة صناعة عربية، والعمل كذلك على تأسيس شركات قابضة عربية تعمل على تنفيذ وبناء استراتيجية التكامل العربى.

ثالثًا: نسعى لبناء المجتمع الديمقراطى

بإصدار دستور جديد يجسد الإجماع الوطنى فى مؤتمر تأسيسى منتخب، وجعل مدة الرئاسة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وإلغاء نظام الاستفتاء واستبداله بالانتخاب الشعبى المباشر للرئيس ونائبه بين مرشحين متعددين، وتخلى الرئيس ونائبه المنتخبين عن صفتهما الحزبية حتى انتهاء مدة ولايتهما، ووقف العمل بحالة الطوارئ، وعدم جواز تجديدها إلا لمواجهة كارثة طبيعية أو حالة حرب أو اضطرابات داخلية مسلحة ويكون إعلان الطوارئ بقرار من الرئيس لمدة ثلاثين يوما على الأكثر، ويجب عرض الإعلان عل البرلمان خلال سبعة أيام من صدوره وإذا لم يعرض في الموعد المحدد أو عرض ولم تتم الموافقة عليه، اعتبر كأن لم يكن، ولا يجوز تجديد الطوارئ إلا بقرار جديد من البرلمان وفى حدود المدة نفسها، وإلغاء كافة القوانين السالبة للحريات، وإطلاق حرية تكوين الأحزاب مع إلزامها قانونا بتداول السلطة داخل مستوياتها التنظيمية كل أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وحرية تكوين النقابات العمالية والمهنية المعبرة عن الاختيار من قبل المنتمين إليها ومباشرة نشاطها طبقا للوائح تضعها بنفسها وانتخاب مجالس إدارتها دون أى تدخل من الأجهزة الإدارية وتأكيد استقلالية الحركة النقابية والتعاونية والطلابية والجمعيات والروابط والمنتديات، وحرية إصدار الصحف وإنشاء محطات الإذاعة وقنوات التليفزيون، وإقرار حقوق الاجتماع والإضراب والتظاهر والاعتصام السلمى، وتأكيد الإشراف القضائى التام على كافة مراحل العملية الانتخابية وفى جميع أنواعها وإعادة تقسيم الدوائر الانتخابية على أسس موضوعية تحت إشراف القضاء وإعطاء القضاء وحده حق الفصل في كافة المنازعات المتعلقة بصحة العملية الانتخابية أو النتائج الناشئة عنها، أو الآثار المترتبة عليها، واشتراط توقيع الناخب أو بصمته في الكشف المعد للحضور مع بيان المستند المثبت لشخصيته، وإعداد جداول جديدة لقيد الناخبين على أن يكون القيد فى جداول القيد تلقائيا بدون تقديم طلب لكل من وصل عمره الثامنة عشر، وتكريس نظام الانتخاب بالقوائم النسبية دستوريا لتعزيز الوعى السياسى عند الناخبين، وضمان الرقابة الدستورية المسبقة على القوانين قبل إقرارها برلمانيا لوقف الفوضى التشريعية، ومحاكمة المسئولين عن انتخابات ثبت فسادها وبطلانها بتقارير وأحكام قضائية، واعتبار تزييف الانتخابات جريمة مخلة بالشرف لا تسقط بالتقادم وينشأ عنها حق التعويض على من ارتكبها شخصا والجهة التابع لها، وإعطاء الأفراد حق رفع الدعوى الجنائية بالطريق المباشر فى جرائم الفساد السياسى والانحراف بالسلطة والجرائم الانتخابية وجرائم التعذيب، وعدم إسقاط أى من هذه الجرائم بالتقادم، وإحالة المسئولين عن جرائم التعذيب فى السجون وأقسام الشرطة إلى محاكمات عاجلة، وإنهاء تبعية السجون لوزارة الداخلية ونقلها إلى المجلس الأعلى للقضاء، وتحرير العدالة من كل صور الارتباط بالسلطة التنفيذية، وضمان الاستقلال التام لسلطة الادعاء والتقاضى بتعاقب درجاته، والفصل بين سلطتى الاتهام والتحقيق خاصة فى الجرائم المضرة بأمن الحكومة، وإلغاء تبعية النائب العام والتفتيش القضائى ورؤساء المحاكم الابتدائية لوزير العدل، ومنع انتداب القضاء لأعمال غير قضائية ومنع توليهم أية مناصب إدارية أو سياسية خلال خمس سنوات من تركهم القضاء العادى، وقصر رئاسة المجلس الأعلى للهيئات القضائية على رئيس محكمة النقض، وإلغاء كافة صور الإدعاء والقضاء الاستثنائى، وإقرار حق كل مواطن في الالتجاء إلى قاضيه الطبيعى المنصوص عليه فى قانونى السلطة القضائية ومجلس الدولة، وقصر اختصاص المحاكم العسكرية على جرائم إخلال العسكريين بالانضباط العسكرى، وإطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين والمدنيين المسجونين بقرارات المحاكم العسكرية، وتأكيد حقوق الإنسان -كافة حقوق الإنسان- في الحياة والحرية والكرامة، وحرية الاعتقاد والتعبير والاتصال والمعرفة والاجتماع والمشاركة في الحياة العامة، وحقوق الإنسان فى العمل وحد أدنى للأجر مع ربط الأجر بالأسعار، وتساوى الأجور عند تساوى العمل وحقوق التعليم والصحة والمسكن اللائق والمعاش والضمان الاجتماعى ضد البطالة أو المرض أو العجز، وعدالة توزيع الدخل القومى، وحقوق الإنسان في حرمة المراسلات والمسكن والبدن وحمايته من الإيذاء أو التعذيب النفسى والجسدى وتحريم الحبس التعسفى أو الحبس الاحتياطى إلا بأمر من السلطة القضائية وفى حدود القانون، والمراجعة الشاملة لكل المنظومة القانونية الحاكمة لعلاقة السلطة بالشعب وعلاقة المواطنين بعضهم ببعض وعلاقة المؤسسات بعضها ببعض وذلك حتى يتناسب القانون مع قواعد العدل وروح العصر، وحق الإنسان في المعلومات، وتحرير حركة النساء من قيودها، وتأكيد مساواة المرأة بالرجل في تولى الوظائف والمناصب العامة. اذا كانت النظم النيابية تأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات؛ بمعنى الفصل المتوازن بين السلطات العامة الثلاث فى الدولة (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، مع تحقيق وقيام التعاون فيما بينها لتنفيذ وظائفها فى توافق وانسجام فى ظل وجود رقابة متبادلة بينهما لضمان وقوف كل سلطة عند حدودها دون ان تجاوزها، أو تعتدى على سلطة أخرى. وقد كان هذا المبدأ الذى وضعه مونتسيكو؛ الا ان التطبيق العملى والفعلى قد شهد سيادة نظامين هما النظام الرئاسى والنظام البرلمانى، وهما النظامان اللذان عرفتهما مصر منذ دستور عام 1923 حتى الآن، وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك ان السلطة التنفيذية هى إحدى السلطات الثلاث تجور على السلطتين التشريعية والقضائية فيكون ذلك إهدارا صارخًا لمبدأ سيادة الشعب؛ الأمر الذى يفرض الأخذ بنظام المجلس المعروف باسم الجمعية النيابية، ويقوم نظام حكومة الجمعية النيابية على أساس تبعية السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية واندماجها فيها؛ إذ تتولى الجمعية النيابية الوظيفة التشريعية، وتعهد إلى لجنة خاصة تخضع لتوجيهها، ولهذا يطلق على نظم حكومة الجمعية النيابية "النظام المجلسى". ويتميز النظام المجلسى بخاصيتين أساسيتين؛ الأولى: اجتماع السلطتين التشريعية والتنفيذية فى يد البرلمان المنتخب من الشعب هو الذى يقبض بيده على ناصية الأمور فى البلاد، ويضطلع بكافة السلطات سواء المشرعة أو المنفذة، وبناء على ذلك يقوم البرلمان بتعيين الوزراء، واختيار رئيس الوزراء لإدارة دفة الشئون التنفيذية فى الدولة، والثانية: يترتب على تجميع السلطات فى يد البرلمان، وعلى قيامه باختيار أعضاء السلطة التنفيذية خضوع هذه الأخيرة خضوعًا تامًا، وتبعيتها تبعية كاملة للبرلمان، وتفصيل ذلك ان البرلمان يتولى توجيه الحكومة والإشراف عليها فى عملها، بما يتيح لها الحق فى تعديل قراراتها أو إلغاؤها، ويكون الوزراء مسئولين سياسيًا عن عملهم أمام البرلمان، الذى يستطيع عزلهم اذا ما أساءوا استعمال السلطة أو انحرفوا بها عن طريق تحقيق المصلحة العامة. وهكذا لا يوجد فى النظام المجلسى التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية كما هو الحال فى النظام البرلمانى، وإنما تسال الحكومة بكامل أعضائها ورئيسها مسئولية كاملة أمام البرلمان. ان ما فعلته ومارسته السلطة التنفيذية من قهر على الشعب، وعلى سلطته التشريعية ممثلاً فى مجلسه، ثم ما مارسته على السلطة القضائية من تدخل سافر فى شئون العدالة، وإهدارا صارخًا للأحكام القضائية الصادرة عنها أمر يستلزم من كل إنسان عربى حر ان يرد السلطة التنفيذية إلى حدودها وصوابها بأن يعود الأمر برمته إلى الشعب ليوقف هذا الزحف من قِبل الشرطة التى تسللت إلى كل موقع، وكل شبر، تحكم وتتحكم فيه بلا ضابط أو مرجعية لها تحت زعم الخوف على الأمن والاستقرار.
من هنا فإننا نرى ان استرداد الشعب لسيادته لن يتحقق الا بأن نتبع نظامًا نيابيًا جديدًا يعيد الأمور إلى نصابها الطبيعى؛ حتى ولو كان ذلك لفترة محدودة مع إطلاق سلطة القضاء كاملة فى ممارسة فعلية وواقعية لوظيفته، مع إلغاء وزارة العدل التى تغتصب اختصاصات هذه السلطة، وتحويلها إلى وزارة دولة للإشراف على هيئة قضايا الدولة، والنيابة الإدارية، ومصلحة التوثيق والشهر العقارى. وإنشاء شرطة قضائية مستقلة لتنفيذ الأحكام والأوامر والقرارات القضائية، وتتولى الإشراف على السجون، والنظام داخل أبنية المحاكم.
ولا يمكن بناء مجتمع ديمقراطى إلا باستقلال المجتمع الأهلى، برفع كل وصاية إدارية وأمنية عل حركة الجماعات الأهلية، ومنع تعيين موظفين حكوميين فى مجالس إداراتها، وكفالة استقلالها الداخلى، وديمقراطية عملها، وحق مؤسسيها فى اختيار مجالات النشاط وأساليبه ووسائله، وحظر حل الجمعيات الأهلية بقرار إدارى، والاحتكام للقضاء وحده فى أى نزاع ينشأ ويتعذر حلة بالتراضى، وإلغاء حق وزير الداخلية فى الاعتراض على قرارات وأحكام المحاكم، وتحرير العمل الأهلى من التمويل الأجنبى بمزالقه الخطرة، وإنشاء اتحادات طوعية نوعية أو إقليمية للجمعيات الأهلية مع -أو بدون- جمعيات التعاون لتنسيق تكامل الأنشطة، وتأكيد دور المنظمات الأهلية فى الدفاع العملى عن الحقوق ومحو الأمية وحماية البيئة ومساعدة الفقراء والخدمات الثقافية وتعزيز الرعاية الصحية وحماية المستهلكين وتنمية المجتمعات المحلية .. وغيرها، والجمعيات الأهلية ليست الصورة الوحيدة لتفجير حيوية المجتمع، فهناك جمعيات التعاون وهى تقوم بأدوار ظاهرة، ويمكن أيضا إيجاد هيئة أهلية مستقلة معتبرة لتنظيم تحصيل الزكاة والصدقات والعشور، والحث على تقديم تبرعات تخصم من الضرائب المستحقة، وتضاف الحصيلة لميزانيات الرعاية، ويمكن أيضا تعزيز قيم التكافل الاجتماعى بإحياء نظام "الوقف" الأهلى وتجديده والتشجيع عليه بما يتمشى مع الظروف، فالوقف صدقة جارية يتصدق بها صاحبها ليتم إنفاقها فى وجوه البر والخيرات والمنافع العامة، ويجب إزالة القيود الإدارية والقانونية التى تحول دون إنشاء أوقاف جديدة، وإدارة الأوقاف يجب أن تعود أهلية مستقلة، ولا يجب إنفاق عوائدها فى غير ما هى موقوفة عليه، كما يجب عودة الأزهر لدورة الريادى والتنويرى، وتحريره من وصاية السلطة التنفيذية، وذلك بانتخاب شيخ الأزهر من "جماعة علماء الأزهر" وطاقات العمل الأهلى بلا حدود لو أحسن استثمارها فى مجتمع يتنفس أريحية ويهفو إلى التطوع في خدمة الجماعة، والنساء - بالذات- أشد العناصر مثابرة على العمل التطوعى الجاد، والعمل الأهلى هو أرحب المجالات لبناء حركة نسائية وطنية جامعة، العمل الأهلى هو أوسع أبواب النساء للعمل العام، وفى مصر أكثر من 15 أ لف منظمة أهلية أغلبها معطل، وفى الوطن العربى كله نحو 100 ألف منظمة أهلية، ولنا أن نتصور مدى اتساع وعمق القواعد التى يمكن أن تنهض عليها عمارة هائلة لحركة نساء حقيقية يحتاجها مجتمع يختنق بإحباطاته ويغلى بتوتراته.

رابعًا: نسعى لبناء المجتمع العلمى
فهو اختيار مصيرى، ولا نبالغ لو قلنا أننا نكون بالعلم والتكنولوجيا أو لا نكون، وقد تأخرت بلادنا كثيرا عن اللحاق بالركب، كانت لنا محاولات مبكرة في اكتساب وتطوير التكنولوجيا النووية والإلكترونيات، ومع إجهاض النهضة ضاع الحلم، وأصبحنا من بلاد "التكنولوجيا الزائرة" أو "التكنولوجيا المستعارة" المحجوزة بأسرارها لفروع الشركات المتعدية الجنسيات، والنتيجة: تخلف قدراتنا التصنيعية مع سنوات التبعية السياسية والاقتصادية، أيضا جرى إجهاض برنامجنا النووى المبكر، بدأنا البرنامج أواخر الخمسينيات، وجرى إنشاء مفاعل إنشاص الذرى سنة 1961، وتكونت قاعدة واسعة من العلماء والفنيين، كما جرى صنع محرك الطائرة القاهرة 2000، وصنع صواريخ كان من الممكن تطويرها لتحمل أقمارا صناعية إلى المدار (القاهر- الظافر- الرائد) لقد كانت مصر متفوقة فى هذا المضمار على دول كثيرة دخلت مجالات الطيران والفضاء بعد ذلك ومنها (إسرائيل). وإذا كانت هذه التجربة قد أجهضت بسبب الحرب الموجهة ضدنا من قبل الاستعمار والصهيونية، فهى مازالت مستمرة فى فرض الإخفاق والفشل بتوقف ثلاثة مشاريع مهمة هى: مفاعل برج العرب ومحطة سيدى كرير النووية ومحطة الضبعة النووية. والتأخر فى البرنامج النووى ارتبط بتأخر عام فى البرامج التكنولوجية، ولم تعد لنا غير فرصة أخيرة قبل التطبيق الكامل لاتفاقات الجات فى حماية حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وتغليظ تبعات نقل التكنولوجيا، ونتصور أنها أصبحت مسألة حياة أو موت، ولا بديل عن تبنى خطة وطنية شاملة لاكتساب ونقل وتطوير التكنولوجيا والعلم الحديث فى مختلف جوانب الحياة فى مصر، فى الإنتاج، والخدمات، وتنمية الموارد المخصصة للبحث العلمى والتكنولوجيا من ميزانية الدولة والضريبة المفروضة على المؤسسات العامة والخاصة لصالح التعليم والبحث العلمى، على أن تصل الميزانية المخصصة لهذه المجالات ما يساوى 3% من الدخل القومى بحد أدنى، وتقديم كافة الحوافز التمويلية والإعفاءات الضريبية والجمركية لمشروعات التطوير البحثى ونقل التكنولوجيا والمعلومات، وتنمية التعاون التكنولوجى مع دول متقدمة كاليابان وفرنسا وألمانيا وتكثيف التعاون التكنولوجى مع دول الموجة الثانية فى شرق أسيا وأمريكا اللاتينية، وتشكيل مجموعات علمية واستثمارية متخصصة لشراء عقود التكنولوجيا ونقل التصميمات، وتركيز جهود الإبداع والابتكار، وإعادة تنظيم هيئات ومراكز البحث العلمى وتخليصها من البيروقراطية واجتذاب العلماء المصرين والعرب المتميزين فى بلاد الهجرة المتقدمة، والاهتمام بإرسال البعثات العلمية إلى البلدان المتقدمة، وصياغة استراتيجية وطنية لتحديد فروع الصناعة والتكنولوجيات المتقدمة ذات الأولوية (الإلكترونيات- الحاسبات- تحلية المياه- الأدوية- الهندسة الوراثية- ا لمواد البديلة- الطاقات المتجددة) وما يرتبط بها من المعلوماتية وتقنية الاتصال والتكنولوجيات المتقدمة القادرة على رفع الإنتاجية بدون رأس المال، وكذلك إنشاء وادى سيليكون في مصر لتصنيع شرائح السيليكون لكسر تفوق (إسرائيل) في صناعة المعلومات، وضرورة حشد كل الموارد المالية والبحثية العربية فى برنامج تكنولوجى موحد، وتخصيص نسبة 3% على الأقل من الناتج العربى كله لنقل التكنولوجيا وتطوير البحوث الأساسية أو إنشاء جامعة عربية لعلوم المستقبل ومدينة بحوث عربية وهيئة عربية لأبحاث الفضاء وهيئة عربية لبحوث تحلية المياه. وطبيعى أن نجاح القفزة المطلوبة مرتبط بمجانية التعليم والتوسع في سنوات الدراسة الإلزامية ومنع التسرب في تلك المرحلة الإلزامية، والتطوير الجذرى في مناهج التعليم وبالذات في جوانبه الرياضية والعلمية والتكنولوجية والوطنية والدينية، كما أن التطوير لابد أن يشمل التعليم الجامعى والدراسات العليا وذلك باستهداف رفع مستوى الكيف والتخصص، ورفع سن الإلزام إلى نهاية المرحلة الثانوية وتبنى مفهوم الشجرة التعليمية الذى يتيح أكبر عدد من التخصصات والفروع فى المراحل الوسطى والعليا، وإتاحة برامج التعليم المستمر للخريجين لاستيعاب الطفرات الجديدة فى المعارف العلمية، والتوسع فى التعليم المفتوح في مجالات العلوم الإنسانية والتطبيقية لإعطاء مزيد من فرص الترقى والتثقيف، وتوحيد نظام التعليم وربط نوعية الخريجين بالفرص المتاحة والمستهدفة فى سوق العمل، وتبنى خطة شاملة لمحو عار الأمية الأبجدية خلال ثلاث سنوات تعبأ فيها جهود المجتمع بكافة أجهزته ومؤسساته ووسائله الإعلامية والثقافية والسعى لنشر الثقافة العلمية عبر الدوريات العلمية والكتاب العلمى للطفل وقصص الخيال العلمى ونشر المنتديات والنوادى العلمية، والاهتمام بالموهوبين والمخترعين والعمل على ربطهم بمؤسسات البحث العلمى ومؤسسات الإنتاج العامة والخاصة، التطوير المستمر للمناهج التعليمية والتربوية، والإعداد الدائم عبر الدورات المكثفة للمعلم من أجل الارتفاع بمستواه، والعمل على نشر مناهج الكمبيوتر والإنترنت فى كافة مجالات التعليم ومراحله، وتأصيل الديمقراطية داخل كافة برامج التعليم ومراحله وذلك عبر إعداد المعلم والمناهج التعليمية وطريقة التعليم وإفساح الفرصة للطلاب فى إبداء رأيهم بشأن ذلك، العمل على زيادة مدارس ورياض الحضانة قبل السادسة والاهتمام بمناهج التربية والتعليم بها، إعطاء صلاحيات كاملة للجامعة كوحدة مستقلة على أن يتم انتخاب رئيس الجامعة وعمداء الكليات وإعطاء كافة الحقوق الديمقراطية للجامعات من أجل تسييد المناخ العلمى والديمقراطى فى تلك المؤسسة العلمية المهمة وعودة موقع أستاذ كرسى والتقدم له عبر الترشيح بالأبحاث المحكمة، وربط الترقيات بتقديم أبحاث محكمة ومنشورة في دوريات علمية عالمية وإقليمية.

خامسا: نسعى لبناء مجتمع الشفافية واقتلاع الفساد

الفساد فى بلادنا أكبر من اختلال قيم وتداعى أخلاق، وأوسع من ثقافة استهلاك غذت تطلعات تقصر عن تلبيتها دخول وموارد، وأخطر من ضياع الحدود بين الحلال والحرام فهناك علاقة مصاهرة وزواج -غير مشروعة- بين السلطة والثروة والإعلام والفساد والتطبيع والقمع، فهناك فساد بالتشريعات بمد الحبال للفساد بالاقتصاد، قوانين وثغرات واستثناءات ينفذ منها أصحاب المصالح بتواطؤ ظاهر مع أصحاب السلطات، وقرارات تصدر وكأنها مدفوعة الأجر محسوبة العوائد الشخصية، ومساومات فى الكواليس وأحكام قضائية لا تجد سبيلها للتنفيذ، وحصار لأجهزة وسلطات الرقابة، وحجب للمعلومات ومنع تداولها فى الصحف، وإدارة للمؤسسات وكأنها من بواقى الأملاك الفردية، ودعم لسلطة المال بسلطة العنف جعل البلطجة هى الدستور المرعى وإن لم يكن مكتوبا، ونهب بأحجام مخيفة حول الفساد من ظاهرة إلى مؤسسة مافيا تستنزف الرصيد الباقى من ثروة الوطن ومقدرة المجتمع على الاحتمال والبقاء والتعايش المأمون، وإلى حد ان تقارير المنظمة العالمية للشفافية تكشف أن مصر من الدول المصنفة فى المجموعة الرابعة فى ترتيب دول العالم من حيث الفساد وهى الأقل نظافة والأكثر فسادا، ومقاومة الفساد أصبحت من "فروض العين" أو "فروض الكفاية" فهى تستوجب شن حملة واسعة منظمة من مواقع القانون والاتصال الجماهيرى والإعلام الحر، وتستوجب التأكيد على حق هيئات الشعب في طلب بيانات ومعلومات تيسر لها فرص القيام بدور رقابى مباشر، وإعطاء الأفراد -بغير اشتراط ا لمصلحة المباشرة- حق إقامة دعاوى جنائية ضد ظواهر الفساد كافة، ومنح الاستقلالية الكاملة والحصانة القضائية للرقابة الإدارية والجهاز المركزى للمحاسبات وإلزام أجهزة الرقابة -قانونا- بنشر معلوماتها وتقاريرها في الصحف وتوفيرها لمن يطلب، وإصدار تشريع لمحاكمة الوزراء ورئيس الجمهورية عند الحاجة وإلزام الرئيس والوزراء والوكلاء والمحافظين وأعضاء البرلمان ورؤساء الهيئات والشركات والمؤسسات العامة وقيادات الأحزاب وهيئات المجتمع الأهلى وكل الشخصيات العامة ومن في درجتهم وأزواجهم وأصولهم وفروعهم، إلزام كل هؤلاء بتقديم إقرارات ذمة مالية علنية تنشر فى الصحف ووسائل الإعلام كافة، وتقدم بما لديه من معلومات مخالفة لبياناتها لنشرها في الصحف أو دفعها أمام القضاء، ومنع قيام ا لمسئولين أو ذويهم بأعمال القطاع الخاص لمدة خمس سنوات بعد ترك مناصبهم، والتطبيق الحازم لقانون: من أين لك هذا؟ والمصادرة الكاملة للأنشطة والثروات مجهولة المصدر أو التى يثبت تهرب صاحبها من الضرائب، وطبيعى أن هذه الإجراءات -وغيرها- تدعم حملة الأيدى النظيفة، لكن اقتلاع الفساد من جذوره يحتاج إلى تغيير جذرى فى السياسات القائمة.

سادسا: نسعى لبناء مجتمع التنمية المستقلة

والتنمية المستقلة تقوم على مبدأ الاعتماد عل النفس ونقطة المنطلق تنمية البشر ومن بعده تطور الإنتاج المحكوم بإعداد البشر القادرين بدنيا وعقليا ونفسيا على التعامل المتقدم مع البيئة واستخدام أدوات الإنتاج الحديثة، ومن هنا تبرز قضايا التنمية البشرية مثل الأمية الأبجدية والثقافية وتدهور أحوال التعليم وتخلفه وسوء التغذية فى مرحلة النمو، وانعدام الكثير من الصحة الوقائية والتقتير الشديد فى علاج الفقراء ومحدودى الدخل، وتدهور البيئة من قبل الفقراء والأغنياء على السواء، والبطالة والفساد وتدهور أوضاع الثقافة فى كافة مجالاتها. ومجتمع التنمية المستقلة يبدأ بالتنمية البشرية فى كافة المجالات التعليمية والصحية والإسكانية والشباب والطفولة وقضايا المرأة فكلها قضايا مهمة معالجتها يؤسس للاعتماد على الذات فى مشروع التنمية وهنا لابد أن يكون منطلقنا فى المعالجة معبرا عن انتمائنا الاجتماعى للفقراء والمنتجين والكادحين -الأغلبية من شعبنا- والسعى لتنمية الإنتاج الوطنى بإعادة مصادر الحركة إلى القطاعات المحلية المنتجة، وتقليص الوزن النسبى لخطر الاعتماد على المصادر الريعية (قناة السويس- البترول- السياحة) مع عدم إغفال تطويرها، والتحكم في النمو السرطانى لتجارة الأموال والمضاربات العقارية بوضع روادع وقواعد مناسبة، والهدف: دعم الاقتصاد العينى مقابل تقليص اقتصاد المضاربة، وتعزيز الطابع الإنتاجى بتكامل حلقاته وتوفير مستلزماته داخليا، وتوجيه الإنتاج لإشباع الحاجات الأساسية أولا بقدرات إنتاجية تحقق الاعتماد على النفس ومراعاة توافق اختيارات الإنتاج مع الذوق الوطنى، وتطوير المنتجات وأساليب إنتاجها بامتلاك ناصية المعرفة التكنولوجية المتطورة، والتدقيق في اختيار فروع الصناعة المتطورة الأولى بالرعاية، وتبنى استراتيجية تصنيع سريعة وطفرية وتنفيذ استراتيجية الربط بين الورش والصناعات الصغيرة المنتشرة بآلاف عبر شبكة لتكامل حلقات التصنيع الوطنى ومضاعفة نصيب الصناعة في الناتج المحلى الإجمالى إلى 40% خلال عشر سنوات، وهو هدف لا يتحقق بدون مضاعفة معدل الادخار المجلى ومعدل الاستثمار الإجمالى إلى مالا يقل عن ثلث الناتج القومى، والتركيز على الصناعة لا يعنى إهمال الزراعة، فما جرى إهماله عندنا فى الزراعة والصناعة هو النهج الإنتاجى المتطور الذى يعطى للتقدم العلمى أبرز الأدوار، وقد أصبحت الزراعة تعتمد على الصناعة المتطورة بدرجة أكبر مما كانت الصناعة تعتمد، تاريخيا، على الزراعة، ولذلك لا ينبغى التضحية بالزراعة من أجل التصنيع ولا يمكن تنمية الإنتاج الزراعى دون مراعاة علاقة الفلاح بالأرض، ونقطة البدء: إصلاح زراعى جديد يعيد النظر في الملكيات الغائبة واحتكار الأرض، وتأسيس صندوق حكومى لشراء الأراضى الزراعية المؤجرة من ملاكها وتمليكها للمستأجرين على أقساط طويلة الأجل، وحظر طرد أى مستأجر من أرضه، وإعادة النظر فى قانون الإيجارات الزراعية الجديد، وإلغاء حجوزات بنك الائتمان وديونه على الفلاحين الذين يملكون أو يزرعون أقل من 5 أفدنة ووقف مطارداتهم أمنيا وقضائيا، وتحويل بنك الائتمان وبنوك القرى إلى بنك التعاون الزراعى يملكه ويديره التعاونيون الزراعيون لخدمة الفلاحين والإنتاج الزراعى، ودعم تكامل حلقات التعاون الزراعى في الإنتاج والإقراض والتسويق، وتعديل التركيب المحصول لإشباع الحاجات الأساسية وتنشيط اتجاهات التكثيف المحصولى وبحوث التقاوى لتطوير أصناف عالية الإنتاجية وقليلة الاستهلاك للمياه والمخصبات الصناعية، وتطوير الإرشاد الزراعى بمشاركة كليات الزراعة فى الجامعات، وترشيد استخدام المياه، فـ 97.5% من مواردنا المائية يأتى من خارج الحدود، ونصيب الفرد 980متر مكعب سنويا (أى تحت خط الفقر المائى المقدر دوليا بـ100متر مكعب للفرد)، وتنمية الزراعة مع ترشيد استخدام المياه يلزمه زيادة الاستثمارات فى الزراعة والرى والصرف، ومضاعفة المخصصات الحالية (10% تقريبا)، وإنشاء صندوق خاص للتنمية الزراعية يجرى تمويله من زيادة الضرائب على السلع ومظاهر الاستهلاك الترفيهى والأراضى الزراعية المستصلحة لأغراض غير زراعية (مبانى ومنشآت وطرق ومصانع …الخ) وحصيلة بيع أراضى الدولة، والاستفادة من الاستثمارات فى تهيئة المناخ لزراعة غير تقليدية توجه للتصدير وتحقيق الاكتفاء الذاتى فى إنتاج الحيوان والأسماك وسائر الكائنات البحرية، ومضاعفة الرقعة الزراعية المستغلة 7.4 مليون فدان حاليا) بالإسراع فى تعبئة شاملة لتنفيذ مشروعات الاستصلاح والتوسع الكبرى فى سيناء والجنوب ومنخفض القطارة والواحات الخارجة والداخلة (حيث يمكن زراعة مساحات شاسعة من أرض مصر اعتمادا على مصادر متعددة من بينها مخزون المياه الجوفية). وتبنى معايير عادلة في توزيع الأرض الجديدة على الفلاحين المهجرين من مخزون الريف (57% من سكان مصر) وعمال المشروعات والشركات العامة والخاصة والطاقات العربية المشاركة وفق خطة شاملة لتوسيع رقعة المعمور المصرى، ومع تطوير الصناعة والزراعة يجب تفتيح مسام المجتمع الإنتاجية كلها وإطلاق طاقاتها، فالتعاونيات قطاع فعال في المجتمع، وإنتاجها السنوى حاليا يتجاوز عشرة مليارات جنيه، وهناك عشرة ملايين مواطن منظمين في تعاونيات الزراعة والحرف والاستهلاك والإسكان والصيادين، وعدد الجمعيات التعاونية أكثر من 15ألف، والقطاع التعاونى عميق الجذور في مصر وله مؤسساته الراسخة، والتعاون ينمى قيم الديمقراطية الاقتصادية والمسئولية المشتركة والوظيفة الاجتماعية للملكية، ويجب السعى لتوسيع قاعدة التعاونيات وتأكيد ديمقراطيتها وتعظيم إنتاجيتها وتحريرها من وصاية الدولة أو مظاهر الانحراف بها، والحرفيون -أيضا- قطاع فعال في حياة مصر عددهم أكثر من أربعة ملايين، ويقومون بتصنيع وصيانة وتجميع سلع عديدة وهم حلقة هامة فى تكامل قطاعات الاقتصاد، ويجب تشجيع الحرفيين بإعفاء صغارهم من الضرائب المتراكمة عليهم، وقيام الحكومة بأداء التأمينات الاجتماعية عن عمالهم، وتسهيل إجراءات الترخيص لورش الحرفيين، وهى أفضل مدارس التلمذة الصناعية، وإنشاء بنك خاص لتمويل الصناعات الحرفية وتجميعهم فى اتحادات أو تعاونيات تساعد على فتح سبل التصدير لمنتجاتهم ومشغولاتهم اليدوية بالذات، أيضا يجب تشجيع الحرف والصناعات البيئية، ودعم مشروعات الأفراد الصغيرة والمساعدة فى الترويج والتسويق وتحسين الاستفادة بالميزات النسبية لموقع مصر وإمكاناتها الثقافية والبشرية باستثمار موقع مصر المتوسط لإقامة مناطق الصناعة والتصدير ونشر مراكز وورش صيانة وإصلاح السفن على الموانئ المتعددة، وتعظيم عائد السياحة فى بلد هو متحف الدنيا كلها، فمصر تملك ثلثى أثار العالم ومشاهد حية مؤثرة من الحقب الفرعونية والتاريخ المسيحى والتاريخ الإسلامى السنى والشيعى، وهو ما يعنى أن أغلب البشر لهم مزاراتهم المحببة فى مصر، ونصيبنا الممكن من السياحة يفوق نصيبنا الحالى منها بعشرات المرات، ويتطلب نشاطا هائلا فى الترويج والتسويق، وإنشاء وزارة خاصة للآثار، ودعم سياحة المعارض والمؤتمرات ودعم السياحة الداخلية، وتوفير منشئات سياحية متنوعة تخاطب أذواق السائحين القادمين من بيئات ثقافية مختلفة، أيضا: يجب تشجيع السياحة الطبية خاصة من الأقطار العربية، ولدينا منشآت وخدمات طبية متطورة قادرة على الجذب لو جرى الترويج لها. كما يجب اعتماد التنمية المخططة التى تستهدف مضاعفة الدخل القومى فى عشر سنوات على الأكثر، وتأكيد دور الدولة الوطنية فى قيادة التنمية بكافة قطاعاتها، ووقف الاقتراض الخارجى المشروط وغير المرتبط بمشروعات استثمارية مخططة أو بالنقل الكامل للتكنولوجيا، وتفضيل الاقتراض عند الحاجة من جهات وأقطار عربية، والاستفادة القصوى من الثغرات وفترات السماح فى اتفاقات الجات، والعمل على تحقيق تكافؤ أفضل من خلال الاندماج فى كتلة اقتصادية عربية، فالكتل الاقتصادية الأوسع لها مزاياها واستثناءاتها المنصوص عليها فى اتفاقات الجات، والسعى من خلال مجموعة الثمانية (الدول الإسلامية) ومجموعة الـ15 (لدول الجنوب) لضمان وحماية أكبر للأسواق والصناعات والمنتجات، وإلغاء العجز المتفاقم فى ميزاننا التجارى بتنمية قطاعات التصدير ودراسة احتياجات الأسواق الأقل نموا، والاتجاه شرقا وجنوبا في تجارتنا الخارجية بنسبة الثلثين ووقف استيراد السلع الكمالية والترفيهية، والإحلال محل الواردات بإشباع الاحتياجات الأساسية وتحقيق الاكتفاء الذاتى في الحبوب، ودعم حصانة السوق بتنمية الاعتزاز بالمنتجات الوطنية مع تطويرها وتجويدها تحت شعار "صنع في مصر وبعقول مصرية" ووقف برنامج خصخصة القطاع العام والعمل على إصلاحه إصلاحا شاملا وإدارته على أسس الكفاءة الاقتصادية والتطوير الإنتاجى، وتعزيز رقابة العاملين ومشاركتهم في الإدارة وتنمية استثمارات القطاع العام، ودعم عمليات التجديد والإحلال والتشغيل الكامل لخطوط الإنتاج، وبيع الوحدات الخاسرة للعاملين أو للوحدات الأخرى الرابحة، ومساواة القطاع العام في الحوافز والتسهيلات مع القطاع الخاص، وتعزيز دور التعاونيات والحرفيين في الإنتاج والتسويق والتصدير، ودعم دور القطاع الخاص الوطنى المنتج فى كافة المجالات وأهمها مجالات التصنيع والمعلوماتية والمساواة التامة فى المعاملة والإغراءات والتسهيلات بين رءوس الأموال العربية ومثيلتها المحلية، وتقليص نشاط التوكيلات الأجنبية وحصار الأنشطة الطفيلية والاستهلاكية، ووقف نزيف الإعفاءات الضريبية الممنوحة بحجة تنشيط الاستثمارات، وتوجيه الإعفاءات لقطاعات بعينها مطلوب تنميتها في إطار الخطة العامة والتشديد فى تحصيل حقوق الدولة بأحكام قضائية، وفرض ضريبة اجتماعية تصاعدية، وإلغاء تشريعات السماح للأجانب بإنشاء وإدارة المطارات والموانئ والطرق وتملك الأراضى والعمل على تحديث الريف المصرى (الإنسان والمعمار والأرض) بما يحافظ على البيئة المميزة له فى كافة مناحى الحياة المعاشة.

سابعا: نسعى لبناء مجتمع الضمان الاجتماعى الشامل

وتلبية الحقوق والحاجات الأساسية للإنسان، والتأكيد على حقوق التعليم والعمل والعلاج والسكن والتأمين والمعاش والبيئة النظيفة لكل مواطن بصفتها حقوقا طبيعية ودستورية ملزمة، وهذه الحقوق -مع عدالة توزيع الثروة- عناصر جوهرية للتنمية البشرية التى هى عنوان رقى وتقدم الأمم، ومن حق كل مواطن أن يتعلم مجانا، وأن يواصل طريق العلم بقدر ما يتحمل استعداده ومواهبه، فالعلم طريق تعزيز الحياة الإنسانية وتكريمها، والعلم هو الطاقة القادرة على تجديد شباب العمل الوطنى، وتكافؤ الفرص فى التعليم والعلم هو الأساس، وإيقاف سرطان التعليم الخاص فى جميع المراحل -وبالأخص فى المرحلة الجامعية- الذى يحول العلم إلى سلعة ويهدر تكافؤ الفرص.

العمل حق وشرف وواجب ، ومن حق كل مواطن أن يجد عملا يتناسب مع كفاءته واستعداده ومع العلم الذى تحصل عليه، وأن يكون هناك حد أدنى مناسب للأجور مرتبط بالإنتاج والأسعار ويتكفل به القانون، وحد أعلى للدخول تتكفل به الضرائب، ومن حق كل مواطن تتأخر عنه فرصة العمل أن تصرف له "إعانة بطالة" شهرية تفى بالحد الأدنى من ضرورات الحياة، وفرص العمل يجب توفيرها بالتوسع الإنتاجى فى مشروعات العمالة الكثيفة، وتأهيل فوائض العمالة بإعادة التدريب لوظائف جديدة مطلوبة، والعمل بنظام تعدد الورديات (اثنتان وثلاثة) فى كافة قطاعات الإنتاج والخدمات لاستيعاب قوة العمل بالكامل وزيادة العوائد طفريا في الوقت نفسه، ومن حق كل مواطن أن يحصل على معاش مناسب فى سن التقاعد، والتأمينات ضد الشيخوخة وضد ا لمرض لابد من توسيع نطاقها بحيث تصبح مظلة واقية للذين أدوا أدوارهم فى العمل الوطنى، وجاء الوقت الذى يجب أن يضمنوا فيه حقهم في الراحة المكفولة بالضمان، ومن حق كل مواطن أن يحصل على حقه في الرعاية الصحية بحيث لا تصبح هذه الرعاية علاجا ودواء سلعة تباع أو تشترى، وإنما تصبح حقا مكفولا غير مشروط بثمن مادى، وحق كل مواطن في الرعاية يكفله نظام كف ء للتأمين الصحى الشامل ، ويجب أن يزيد نصيب الصحة مع التعليم إلى ربع إجمالى الإنفاق العام على الأقل، ومن حق كل مواطن أن يجد السكن الملائم وفى حدود نسبة معقولة من دخله، ويمكن تبنى جملة إجراءات من بينها، وقف ظاهرة الإسكان الترفى والمضاربات العقارية، وتقديم كافة التسهيلات في توفير الأراضى ومواد البناء بأسعار رخيصة، وعودة الدولة - بالمشاركة مع القطاعين الخاص والتعاونى- إلى تحمل مسئولياتها تجاه الإسكان الشعبى وتدخل الدولة لمواجهة كافة أشكال الخروج على قوانين الإسكان بحلول ممكنة عمليا مقبولة سياسيا واجتماعيا وإداريا، وإلزام أصحاب الشقق الخالية المغلقة بتأجيرها للراغبين، وصياغة تشريعات إيجابية عادلة، وحظر طرد مستأجر من سكنه، ويجب ضمان حق كل مواطن فى بيئة نظيفة، بحماية النيل من التلوث، وحظر أى نشاط ضار بالبيئة والإنسان، فـ40% من سكان المدن يستنشقون هواء ملوثا، وتضمين كل مشروع صناعى الاعتمادات اللازمة للتخلص من النفايات، والحد من الإفراط فى استخدام الأسمدة الكيماوية، واستغلال نفايات الزراعة ونفايات الإنسان فى توفير السماد العضوى وتوليد الطاقة الحيوية، وحظر استخدام الهرمونات فى تربية الماشية أو زراعة الفواكه، وتنقية مياه الشرب من الملوثات الكيماوية، والاهتمام بالنظافة العامة، وتعميم استخدام الوقود الخالى من الرصاص فى وسائل النقل. هذه بعض أهدافنا ومطامحنا، نتوجه بها إلى الشعب وحده. ونثق أن الشعب هو المعلم، وصانع التغيير، وغايته. ونؤمن أن إرادة الشعب من إرادة الله.

ليست هناك تعليقات: